“البعث” ومسؤولية الكلمة
د. صابر فلحوط
التأسيس، هو امتحان تاريخي دائم، تُجريه الأيام والأحداث الجسام لاختبار صلابة أي بنيان فكري أو ثقافي أو سياسي في المجتمع..
وجريدة “البعث” الناطقة بلسان حزب البعث العربي الاشتراكي التي ولدت صبيحة عام 1946، قبيل ميلاد الحزب 1947، والتي يحتفل رفاق البعث وأصدقاؤهم على امتداد الدار العربية الواسعة بتأسيسها هذه الأيام، تمثّل الوثيقة الأغلى والقيمة الأعلى مقاماً، والأمضى سلاحاً في معارك الأيديولوجيات وتجديد الفكر القومي، وتأصيل الهوية العروبية، وتمكين حضارتها بكل أبعادها الوطنية والقومية والإنسانية، وقد تشرّف بالصمود إلى منبر “البعث” خلال العقود السبعة الماضية رفاق من الحرس القديم في الحزب، وقد أعطى كل منهم ما أسعفه القدر، والعمر، والظرف، وما يحسب له في ميزان أجيال البعث اللاحقة بالتقدير والعدل والشفافية.. كما توالى على منبر “البعث” شباب يتفجرون حماسة، وطموحاً، فقدّموا، وتركوا بصمات تضيء في سجل الخالدين في حقول الفكر والصحافة والإبداع في المجتمع. وكلا الفريقين – القديم والحديث – كان مبدعاً في الاجتهاد على صراط الإيمان الراسخ بالبعث سبيلاً أوحد لتحصين تراث هذه الأمة، وبعث حضارتها، وتجديد ميلادها في الوحدة والحرية والاشتراكية، ومواكبة العصر ومستجداته المدهشة والمتسارعة.
وقد صمدت “البعث” في مصطرع النظريات السياسية، وتناطح الإرادات في متراسها العروبي، تتصدى، وتتحدى بسلاحي الثقافة والفكر الموضوعي، والإيمان الذي لا يتزعزع بالعروبة الحضارية، والوحدة القومية، وامتلاك زمام العلوم المعاصرة، باعتبار ذلك هو الدواء الشافي لكل أدواتنا من فرقة، واستعمار، وقطرية، ورجعية، وطائفية، وتخلف..
وقد أسعفني القدر غداة شرّفني الحزب برئاسة تحرير جريدة “البعث” في مطلع التصحيح المجيد، كما شرّفني القائد الخالد حافظ الأسد، مؤسس سورية الحديثة، في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس “البعث”، بلقاء توجيهي، كما كرّم الجريدة بكتابة افتتاحية بقلمه في عيدها الفضي، وقد تضمنت الافتتاحية، من الأفكار والمعاني والقراءات الاستطلاعية للقادم من الأيام، ما شكّل خريطة طريق للمتوقع من الأحداث، وما أحلاها، وأمرها في آن من حرب تشرين التحريرية أعظم أمجاد الأمة في القرن العشرين وانتهائها بكامب ديفد وصفقة القرن التي نعيش مأساتها هذه الأيام.
وقد أكد سيادته في مقاله الافتتاحي في “البعث” أن فلسطين هي جوهر القضايا العربية، وهي البوصلة في نضال شعبنا، وأن الوحدة العربية هي السلاح الأقوى، والأقتل لأعداء الأمة.
إن آية جريدة البعث أنها مثلت في التناوب على إدارتها، ورئاسة تحريرها، معظم ألوان الطيف في المجتمع العروبي (من العراقي إلى السوري إلى الفلسطيني إلى التونسي.. إلخ).. وهنا أذكر أننا ذهبنا عام 1964 لتأسيس الاتحاد العام للصحفيين العرب في الكويت، وكان رئيس الوفد الصحفي السوري الرفيق محسن أبو ميزر، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (باعتباره مديراً عاماً لدار البعث)، وقد جلس – حسب بروتوكول الاتحاد – خلف العلم السوري.. وبعد الجلسة الأولى للمؤتمر جاءني الأستاذ صبري أبو المجد رئيس الوفد المصري ليقول بلهجة الاستغراب (ازاي يا ابني يجلس أبو ميزر الفلسطيني خلف العلم السوري؟!)، وقد أجبته: أليس السيد أبو ميزر عربياً؟ قال: نعم. قلت عندنا في سورية (ومن المنطلق والفهم القوميين)، فإن كل عربي له في سورية من الحقوق وعليه من الواجبات مثل أي مواطن سوري من القمة إلى القاعدة..
ولعله من دواعي فخرنا نحن الصحفيين في سورية أنه لم يسبق لرئيس دولة أن حمل الهوية الصحفية لنقابة الصحفيين في بلده سوى الرئيس الخالد حافظ الأسد، والسيد الرئيس القائد بشار والأسد أطال الله في عمره.. وهنا لا أنسى ملاحظة القائد الخالد لحظة تسلّم سيادته الهوية الصحفية على مدرج جامعة دمشق في أثناء المؤتمر العام الرابع لاتحاد الصحفيين العرب 1974، حيث قال لي سيادته: (هل أصبحت بموجب هذه الهويةصحفياً أتكلم وأكتب مثلكم؟).
وقد فهمت هذه الملاحظة باعتبارها نقداً غاية في العمق والأدب والأبوة، كما أنها توجيه للصحفيين في بلدنا ليدركوا خطورة السلاح الذي يحملون، وأن عليهم أن يحققوا ويدققوا قبل إطلاق الرأي في مختلف وسائل الإعلام. لقد تخرّج في مدرسة “البعث” الصحفيون الملتزمون هموم الجماهير، كما تخرّج في مدرسة “البعث” – الحزب – أجيال من المناضلين العقائديين العروبيين الذين جعلوا من سورية العربية، عبر ثورة آذار وإنجازاتها، والتصحيح المجيد وبراعته في تجديد الثورة والحزب معاً، الرقم الأصعب في معادلات المنطقة، ومواجهة الحرب الكونية التي شنها أعداء الشعوب والحرية وكرامة الإنسان على سورية طوال سنوات ثمان لم يشهد التاريخ مثيلاً لها في فظائعها وأخطارها، ودمارها…
ولقد شهدت جريدة البعث خلال عمرها المديد، وشبابها المتجدد عشرات المطبوعات، ودور الصحف التي ولدت، وعاشت، وما لبثت أن شاخت وماتت، لأن جذورها لم تتمكن من تربة الجماهير كما “البعث” التي تطوي العقود، وهي تتألق شباباً، وتتوهج حباً، وتتميز تطوراً وقبولاً لدى الشارع القومي .. وكذلك كانت مسيرة “البعث” الذي شهد عشرات، بل مئات، الأحزاب والحركات السياسية التي غادرت ساحة الفعل النضالي.. ومازال “البعث” في ريعانه بفضل جيشه العقائدي وقاعدته الشعبية الجبارة، وقيادته التي أدهشت العالم بحكمتها، وشجاعتها، وبراعتها في إدارة معركتي السياسة والسلاح ودخولها نادي الكبار في العالم على صعيد التحولات الراهنة والقادمة التي لن يكون فيها وجود لهيمنة الاستكبار العالمي والأحادية القطبية..
المجد – للبعث – حزباً طليعياً بكوادره وقياداته وطموحات أجياله.
وكل التحايا لجريدة البعث، إدارة وزملاء وعاملين، ومزيداً من التألق، ومواصلة النضال بالكلمة، حليفة البندقية، في معارك المصير القومي لتجذير العقيدة العروبية، وترسيخ الثقافة القومية، وحمل مسؤولية الكلمة الملتزمة التي تعزز الدور المفتاحي للحزب في تصعيد الطاقات الخلّاقة للأجيال العربية.