فاتح المدرس.. ترجمان الحس والانفعالات الجميلة
رحل الفنان التشكيلي فاتح المدرس 1922- 1999 في نهاية شهر حزيران منذ عشرين عاما تاركا خلفه إرثاً فنياً كبيراً يشهد على أنه رائد الحداثة في التشكيل السوري المعاصر حيث بدأت ملامحها من خلال لوحته “كفر جنة”، فاتح المدرس ابن ريف حلب الشمالي، كان له ميول مبكرة نحو الموسيقى والفن والأدب، وقد اكتشف مواهبه أستاذ الرسم شريف بيرقدار وبعد ها تعرف إلى منيب النقشبندي وغالب سالم وآخرين وانتقل إلى لبنان للدراسة في مطلع الأربعينيات ومن ثم عاد مدرسا للغة الإنكليزية والتربية الفنية في حلب، كما أوفد إلى روما حيث اختار محترف الفنان الايطالي جنتليني الذي ترك أثره في منهج المدرس التعبيري وإيقاعاته التكوينية ودرجات اللون وإشراقاتها, وقال عن تلك الفترة وتأثيرها في بنيته الفكرية والجمالية: “تلك الزيارة قلبت مفاهيمي نحو تركيز جهودي في أسلوب معين وقد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المحب لوطنه أن يعمل على بلورة مفهوم الفن في بلاده في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هناك فن بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية”.
تعتبر لوحة المدرس التي تتأرجح بين التجريد والتشخيص ترجمة آنية لمجمل معارفه وهمومه وهواجسه وتخرج عبر شحنة انفعالية قوية تتزاحم فيها الصور وتتكاثف الرؤى وتنهمر العواطف والمعارف، مشكلة شلالا من الألوان والأشكال تفصح عن موقف إنساني ممزوج غالبا بعناصر الطبيعة والحياة وقد كونت طفولته في البيئة الريفية رافدا مهما في مسيرته الإبداعية، بما في ذلك من مفاهيم وعقائد وأساطير محلية ومعتقدات اجتماعية باتت تؤلف مخزونا في ذاكرته التي تفاعلت مع كل الثقافات المحلية والعالمية وفي ذلك يقول: “بإمكاني أن أعترف أنني لم أستعمل مؤثرا واحدا داخل ذاكرتي بعد سن التاسعة، وليست دراساتي الطويلة وتجاربي سوى عملية تكنيس وتنظيف لاتساخ الذاكرة”.
أثر المدرس في الفن التشكيلي السوري فقد حرر أذهان العديد من الفنانين من التقليدية وفتح أمامهم آفاقا واسعة تعتمد الحرية في التعبير واستخدام الأدوات والوسائل المبتكرة والمستحدثة، فاتحا لعهد جديد في الفن السوري الذي يتصف بالإنسانية وحرية التعبير والخلق.
وعن هذه الروح الإنسانية التي يمتلكها الفنان المعلم حدثني الفنان موفق مخول أحد طلابه في كلية الفنون الجميلة حينما صادفه يوما في سوق لبيع الألبسة المستعملة “البالة” واصطحبه في طريق المرسم محدثا إياه وسائلا له: لماذا تشتري ثيابك من البالة؟ لأنها رخيصة.. كان جواب مخول فقال له معلمه الفنان: للبالة خصوصية إنسانية لأن الناس تلبس من بعضها وهذا حب، وفيها خصوصية وغرابة بعكس ألبسة المحلات المتشابهة والمتكررة، وقميص تلك المحال قد تجد العشرات ممن يلبسون ما يشبهه مثلهم مثل بعض الدول الاشتراكية ذات اللباس الموحد، وأحيانا تجد شخصا غليظا لا تحبه يرتدي نفس القميص الذي ترتديه، لكن قميص البالة لن يتكرر، فيه من الخصوصية أنك تشعر بحنان أكثر لأن هناك جسم إنسان آخر كان يرتديه وتسأل نفسك من هو ذلك الشخص صاحب هذا القميص الجميل”.
نستذكر الفنان الراحل وقد مر هذا الأسبوع حافلا بعدد من الأنشطة الفنية التي احتفت بذكرى رحيله العشرين، فقد افتتح في صالة مرسم المدرس معرضا استعاديا لأعماله كما أقيمت أمسيتان في صالة مصطفى علي للفنون الأولى تم فيها عرض فيلم وندوة بمشاركة المخرج السينمائي محمد ملص كما أقيمت في نفس المكان الأمسية الثانية بمشاركة سعد الله آغا القلعة والناقد طلال معلا بحضور كوكبة من الفنانين الذين عايشوا فاتح المدرس أو كانوا طلابه وتأثروا به، في الوقت ذاته تحضر أسئلة كبيرة حول شرعية وأصالة الكم الكبير من الأعمال المتداولة بين المقتنين والتي تنتسب لفاتح المدرس!؟
أكسم طلاع