كم استمعت وصمت!؟
د. نهلة عيسى لدي رغبة متعاظمة هذه الأيام بنشر إعلان في كافة وسائل الإعلام عن مناقصة لبيع عدد لا يستهان به من السوريين, أولئك الذين أينما صادفت أحدهم, امتطى كل فوهات سمعك ليخبرك بوثوق ومرارة المكشوف عنه الحجاب: كيف أن لا أحد استمع إليه حين وقعت الواقعة, وبدأ الخراب, فتسأله برعونة الملدوغ, وأنت العارف بمحدودية علمه, ومعارفه, واهتماماته بالشأن العام وقضاياه: وبماذا أشرت ولم تلبَ!؟ فيحاصرك بالمدافع الكلامية المعتادة, المجترة عن الفساد والفاسدين, وسورية الفينيقية, والعرب الذين لا خير فيهم, والناس الذين انقلبوا وتغيروا, وتبدلت أحوالهم, وفلان الذي أصبح مليارديراً بعد أن كان غفيراً, وعلان غير المستحق, الذي بات مديراً, وفلانة التي غادرت القاع لتغدو فوق الرقاب, ووو…الخ، فتبالغ بالحماقة, وتخبره لتستدر صمته: أن الحق معه, فيشتد قصف كلماته, وترتفع سخونة عباراته, وكأنك قد شحنته ليحدثك عن الوطن الذي انقسم ولم يعد يفهمه أو يستوعبه أو يحتويه, فيزداد نزيف حماقتك, فتقول لتهدئه: يا أخي طول بالك, الوطن ما يزال واحداً أحداً, وأن الانقسام إن كان حاصلاً, فهو بين البشر, وبسبب البشر, وهو عارض سيزول, فيهاجمك كالملسوع, صاحب الثأر: أنت لا تعرف خفايا الأمور, ما خفي عظيم جسيم, فيصيبك الإعياء, وينهكك الجدل, فترتكب الحماقة الكبرى, وتقول: ما دام ليس هناك حل, ومادمت موجوعاً ملتاعاً إلى هذا الحد.. هاجر, وأنت تعرف أن لا أحد حتى أمه سيرتضيه, فيرد كطلقة المدفع: أنا أحب وطني, لكني لا أستطيع البقاء بين هذا وذاك, أنا وأنا وأنا, عند ذلك تضطر لمغادرة الحماقة إلى السأم, والضجر من الكلام بلا أفق, والتبرير بلا سؤال ولا اتهام, فتقرر إنهاء السجال: المهم أنك بخير, وخفف عنك لست “سوبرمان”, ولست محتاجاً لأن تقدم لأحد أعذاراً, فيجن جنونه, ويربد ويفأفىء, من أنه ليس على بالك بال, فأنت مستفيد من واقع الحال!؟ وحينها ليس أمامك سوى خيارين: إما أن تقتله وتسجن, أو تضحك, وتقول له: حتماً أنا مستفيد, هل أرسل لك كشفاً بالحساب, كم شهيد ودعت, وكم جريح زرت, وكم صديق خسرت, وكم هاون نزل فوق رؤوسنا عددت, وكم حلم شيعت, وكم إلى وقح مثلك استمعت وصمت!؟
حقاً لدي رغبة شديدة بالإعلان عن هذه المناقصة, لأنه إذا كان كل من في البلد أنبياء, وجهابذة, ومرسلون, إذن من الذين جعلوا عالي البلد واطيها, وواطي البلد عاليها, بحجة إما أننا أجمل بلاد الكون, وأننا بألف ألف خير, أو بزعم الدفاع عن حرية التعبير, والاختلاف بالرأي, وتكافؤ الفرص, وغير ذلك من مزاعم, كانت تمهيداً “رومانسياً” لجرائم, ما تزال تتواصل على كافة المستويات, وأولها حرية التعبير, التي فهموها (كلا الطرفين) ومارسوها باعتبارها, حريتهم هم فحسب, في انتهاك كل مقدس, وفي شيطنة كل مخالف لهم في الرأي, وفي تعهير كل من لا يحذو حذوهم, أو يتاجر في تجارتهم, وتاليها حرية الصمم لنحجب عن آذاننا كل هذه الأكاذيب!!
ورغم أن إعلاني يبدو طرفة, لكن ليته كان ممكناً, لإراحة الرأس من القال والقيل, ومن مراقبة تدني خطاب السوريين إلى الأنا, كنوع من الخلاص, وإلى القاع, حيث لا حرمة, ولا قيمة, ولا قرار, ولا مسؤولية, ليتكدس الوجع في حنايا الروح والجسد, كخزانة الجدة, تموت هي وتبقى الخزانة إرثاً غير مستباح, لا يباع ولا يشترى, ويمنعك الخجل من تقطيعها حطباً لفش الغضب!!
أود لو أنشر إعلاني, لكني لا أستطيع, ولذلك وجدت لنفسي حبل نجاة, بالهروب إلى أرض الهامسين, مروضي الوحشة, والمحتجبين في الظل حياءً من أن يشعر زائرهم أنه غريب, وأنه لا يعرف ووحدهم يعرفون, الذين كلما وطئت أرضهم أشعر أني دخلت عوالم حب كنت أجهلها, وأخوض مشاعر لم أكن من قبل أفهمها, وأقابل أناساً, يذكرونني بحكايات الجدات عن صبر أيوب, وتجلد يونس على العيش في بطن الحوت, وعن تسامي وغفران يوسف عن خيانة ذوي القربى, وعن كيف يمكن لشاب صغير يحمل بندقية, أن يكون أباً وصديقاً وشقيقاً, وهامساً: أنت بأمان, والبلد ستكون بخير.