قــــوة التفــــاؤل.. تعلــــم الثقـــــة بالحيــــاة
إن قراءة كتاب “قوة التفاؤل” –تأليف مارتان سيليغمان وترجمة د.غسان السيد- تعني الدخول بقوة إلى عالم واسع لعلم النفس الإيجابي بقيادة أحد أبرز ممثليه والأكثر كفاءة، ومما لا شك فيه أن القارئ سيخرج غنياً فكرياً ومتغيراً وجودياً من خلال هذه القراءة، ولا اعتقد أن هناك نظيراً لهذا الكتاب في اللغة العربية في موضوعه وأهميته، وفكرته الأساسية هي أنه يمكن مقاربة صعوبات الحياة مع امتلاك الثقة بقدرتنا على الفعل، وتجاوز اليأس والإحباط. هذا هو المعنى الحقيقي للتفاؤل من وجهة نظر مؤسس علم النفس الإيجابي مارتان سيليغمان الذي يظهر لنا بصورة خاصة أنه يمكننا في أي مرحلة من العمر تعلّم تنمية هذا الموقف، أي الإيمان بالحياة. ويعد سيليغمان أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا أحد رواد حركة علم النفس الإيجابي الذي يدرس مفاتيح السعادة والانفعالات والاكتئاب، وهو مؤسس مركز علم النفس الإيجابي ومديره وقد انتخب على رأس الرابطة الأمريكية لعلم النفس.
تأتي الأهمية الخاصة لهذا الكتاب من الاختبارات العديدة التي قام بها المؤلف من خلال دراسات معمقة أجراها في أهم مراكز البحوث الأمريكية التي تستفيد منها أهم شركات التأمين في الولايات المتحدة من أجل توظيف موظفين جدد على درجة عالية من التأهيل والاستعداد النفسي، والاختبارات الموجودة في هذا الكتاب التي صممت لقياس درجة التفاؤل عند الإنسان في مختلف مراحله العمرية وتفيد المؤسسات التي تعمل على تطوير برامج عملها، كما تفيد المؤسسات التي تعمل على تطوير التعليم كونها تحدد مدى قدرة كل شخص على تحمّل أعباء العمل الذي سيقوم به، إن دراسة طريقة تفسير الشخص لمصاعب الحياة التي تواجهه تدل على توجهاته المستقبلية، إذا كانت طريقة التفسير متشائمة وتحمل صفة التعميم والديمومة والشخصنة فإن لذلك تأثيرات كبيرة في حياة الشخص وتؤدي غالباً إلى الدخول في اكتئاب حاد أما إذا كانت طريقة التفسير متفائلة فإن الإنسان ينهض ثانية حين يواجه صعوبة معينة في حياته. كما أن للكتاب أهمية خاصة أخرى هي أنه يدرس المشكلات النفسية التي يتعرض لها الأطفال حين يقعون ضحية المشكلات الأسرية المختلفة.
العجز المكتسب
يكشف سيليغمان كيف أن الحوادث الشخصية التي عاشها كانت مصدر البحثين الأكثر دلالة: “العجز المكتسب” ثم “التفاؤل وعلم النفس الإيجابي”. في الحقيقة إن أصل اهتمامه بعلم النفس جاء من مأساة شخصية في شبابه، إذ وقع والده الذي يبلغ من العمر تسعة وأربعين عاماً ضحية أزمة عصبية جعلته عاجزاً جسدياً وعاطفياً، ومات بعد سنوات قليلة، وعن هذا الموقف كتب: “كان ذلك لقائي الأول مع الألم الذي ولد من العجز، وقد استمديت قوتي من يأسه” دفعته هذه التجربة إلى دراسة موضوع العجز أو “الاستسلام المكتسب” حيث نقف عاجزين لأننا نعتقد أن أي شيء نفعله لن يكون له نتيجة، تقوم هذه النظرية على عدد من البحوث العلمية وهي اليوم إحدى أكثر النظريات المهمة والمفسرة للاكتئاب.
بعد سنوات من ذلك، حصل لقاء غير متوقع لسيغيمان قاده إلى تغيير اتجاه أبحاثه بصورة جذرية، في إحدى رحلاته بالطائرة شرح له جاره في المقعد أنه يدير مشروعاً عماله منتجون ومتفائلون جداً، ثم سأل ما الذي يفعله في الحياة، أجاب أنه باحث بعلم النفس وهو يدرس منذ خمسة عشر عاماً دور شعور العجز بوصفه عاملاً رئيسياً للاكتئاب، عندها سأله جاره: هل تهتم بالوجه الآخر للمشكلة؟ هل يمكنك أن تتعرف على الأشخاص الذين لا يستسلمون؟ فاعترف سيليغمان له بأنه لم يفكر بهذا الموضوع فعلاً.
بعد هذه الحادثة قام سيليغمان ببحوث على نطاق واسع قادته إلى نتيجة أننا نميل إلى تفسير أحداث الحياة بطريقة متفائلة أو متشائمة وفق ثلاثة منظورات: الديمومة والتعميم والشخصنة. وهكذا فإن الشخص المتفائل يميل إلى الاعتقاد أن الأحداث الإيجابية تستمر فترة طويلة “الديمومة” وحتى دائمة وهي تتعلق بجوانب متعددة من وجوده “التعميم” وهو يعتقد أنه الكائن الوحيد الذي يحصل له هذا أو أنه المسؤول الرئيسي “الشخصنة” وهو يعتقد العكس بخصوص الأحداث السلبية للوجود، أما فيما يتعلق بالأشخاص المتشائمين فهم يميلون إلى تفسير هذا كله بطريقة معاكسة.
التفاؤل
وللتفاؤل صدى إيجابي في مجالات متعددة من الوجود، مثلاً: المتفائل ينجح بطريقة أفضل في المدرسة والحياة المهنية والنشاطات الرياضية، ويكون بصورة عامة بصحة جيدة ويعمّر أكثر، التفاؤل يسهّل المثابرة عندما تظهر بعض المشكلات لأنه وكما لاحظ سيليغمان تصيب المشاكل والمآسي المتفائل كما تصيب المتشائم، الفرق الوحيد بين الاثنين أن الأول ينهض وينطلق للهجوم بدلاً من الاستسلام والوقوع في الاكتئاب، إن أحد الاكتشافات الأكثر غرابة بهذا الخصوص هو أن رجال السياسة المتفائلين لديهم حظوظ أكثر لكي ينتخبوا من السياسيين المتشائمين، وبحسب سيليغمان إن طريقة تفسير “متفائل أو متشائم” تطورت وتبدأ بالظهور بشكل واضح من سن السابعة حيث يقوم الآباء والأساتذة بدور أساسي بهذا الخصوص هناك ثلاثة أنواع من التأثيرات التي تمارس في طريقة تفسير الطفل: التفسيرات التي يسمعها دائماً من فم والديه خاصة والدته، شكل الانتقادات التي يوجهها الكبار في حالة فشله، حقيقة صدماته الأولى: إذا انتهت إلى الزوال فسيستنتج أنه يستطيع التغلب على المحنة، وإذا ظهر أنها مستمرة فإن بذور اليأس تكون قد زرعت. ولكن بحسب سيليغمان فإن شخصيتنا ليست محددة بصورة نهائية، يمكن للمتشائمين خاصة أن يغيروا تفسيرهم للعالم إذا أرادوا، هكذا يقدم لنا سيليغمان اختبارات تساعدنا على تقويم مستوى تفاؤلنا ومستوى تفاؤل أطفالنا ويؤكد أنه “يمكننا أن نجعل شخصاً متفائلاً كان يعيش منذ ثلاثين أو خمسين عاماً في التشاؤم العميق” وهو يستند في ذلك بصورة أساسية على العلاج الإدراكي الذي صممه ألبير إيليس.
علم النفس الإيجابي
عرّف مارتان سيليغمان “علم النفس الإيجابي” بأنه دراسة الشروط والمسارات التي تؤدي إلى الابتهاج أو إلى العمل المتفائل للناس والمجموعات والمؤسسات، وكما يشير هذا التعريف فإن الأمر يتعلق بتصور مركزي للذات، يتميز ببحث خاص بصورة كاملة تقريباً حول الابتهاج والتطور الشخصي، وهو يتعلق أيضاً بالعلاقات البيشخصية والمسائل الاجتماعية وحتى السياسية، تنسجم مختلف الموضوعات التي يطرحها مع هذه المستويات الثلاثة للكائن البشري الفردي والبيشخصي والاجتماعي.
جمان بركات