المجالس الأدبية عند العرب.. حيوات نابضة في كتاب
خمسة أعوام من العمل المضني في جمع الوثائق والمعلومات المطالبة بالدقة والواقعية، قام فيها الباحث “محمد جميل حطاب”، بالعمل الشاق عليها لتدوينها في كتاب، يحمل بين طياته الكثير من الحوادث الممتعة والمثيرة أو المشوقة، ليصدر الكتاب فعلا تحت عنوان “المجالس الأدبية عند العرب”، عن وزارة الثقافة-الهيئة العامة للكتاب.
الدراسة التي جاءت زاخرة بالشواهد التاريخية بتفاصيلها الدقيقة، سعت لتكوين صورة كاملة، موحدة، تجمع كل ذلك الجمال الأدبي في لوحة متناسقة ومنسجمة حتى في حال تنافرها، خصوصا وأن الكاتب ذهب نحو مختلف حدائق الشعر العربي لينتقي منها يانعات قطوفها، باعتبار الشعر كما أسلفنا غير مرة، يحمل بين أبياته، تفاصيل التفاصيل عن ذاك الزمان وأهله، فهو فنهم، ونتاجهم فيه، ويُعتبر حتى هذه اللحظة من الوثائق الهامة التي سيذهب إليها كل من يريد القيام بعمل موسوعي أدبي عربي، أو حتى دراسة لظاهرة ما، تبدت ولاحت من غرة حدائق الأدب العربي، الشعر منه بشكل خاص.
عنوان “المجالس الأدبية عند العرب”، يغري القارئ بل يعِدَه برحلة قراءة ممتعة، تحمله بين الأزمنة، كما لو أنه يمتطي البساط السحري، ويشاهد تلك العوالم بأهلها ومجتمعها، بعاداته وتقاليده، بإبداعه وأيضا بما هو جميل وشاق معا فيه.
الكتاب يقوم بتوضيح الفروق بين أنواع تلك المجالس، بغية دراستها بشكل واف، بعد أن طرق الكاتب أبواب أشهر المجالس الأدبية عند العرب، والتي كانت وما تزال بما تحمله من نقاشات قيّمة، تستثير القراء وتحملهم إلى العودة لتاريخ مرّ، كان فيها الشأن العربي بعموم أحواله، يدعو للفخر بالإرث العظيم الذي حمله ديوان العرب، كما حملته العديد من مؤلفات كُتاب ذاك الزمان، كالجاحظ، والمعري، وغيرهم، شعراء كانوا أم مبتكرو نظريات أدبية، لا زالت تنبض بالحياة ونسبة الحديد المعرفي مرتفعة في دمائها، إنها طازجة أبدا، أولا لأنها تستحق ذلك، وإلا لما بقيت، وثانيا، لأنها كانت فعلا من مفردات القوة عند الشخصية العربية، خصوصا وأن الدولة العربية الثانية “العباسية”، كانت زاخرة بأنواع الفنون الأدبية، وإن كنا ندين لما وصلنا من علوم أجدادنا في الشأن الفكري والأدبي، فهو لتلك المرحلة، التي ساد فيها تناقل العلوم، بعد أن نشطت الحركة الثقافية فيها، ودخلت الأعمال الأدبية والفلسفية والفكرية للعديد من الثقافات غير العربية فيها، بعد أن صارت الترجمة تدر ذهبا على أصحابها، فمن المعروف أن المأمون كان يعطي كمكافأة “محرزة”، -ليس حالها كالحال المتردي اليوم لقيمة الكلمة ماديا ومعنويا- كل من يترجم عملا أدبيا، فلسفيا، علميا، غير عربي، ثقل كتابه ذهبا، ما شجع ونشّط حركة التبادل المعرفي والفكري، بين العديد من الثقافات المحيطة، والتي دخلت كما قلنا، لتصبح واحدة من نقط الارتكاز، في نشوء أفكار ومدارس أدبية وفنية جديدة، تمازجت حينها مع ثقافة أهل ذاك العصر، وفارقت حينا أيضا، خصوصا بظهور تيار ديني متشدد، وصم كل تلك العلوم بالهرطقة، وكلنا يعلم قصة الفيلسوف ابن رشد، مع “الغزالي”، الذي كتب كتابا ينتقد فيه وبشدة الفلسفة وعلومها وأسماه “تهافت الفلاسفة”، ليرد عليه “ابن رشد” بكتابه الشهير “تهافت التهافت.
يفرق الكاتب بين أنواع تلك الجلسات، بتوضيحه الفروق بين البلاط والنادي والمجلس، بادئا بالحديث عن سوق عكاظ، وسوق المربد في البصرة، والذي كانت أعظم أثرا وأكبر مساحة وأطول عمرا، إنها ببساطة مدرسة نما فيها الشعر وبُنيت فيها قواعد اللغة العربية، لينتقل “الحطاب” للحديث عن مجالس الغساسنة والمناذرة، وما كان يدور فيها من سجالات شعرية، قدمت صورة واضحة عن تلك المجالس بأنواعها.
يؤكد الكاتب بيقين لا يرقى إليه شك، بأن شعر تلك المجالس، قدم معلومات هامة، كشفت للباحثين مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية، وعملت أيضا على تسليط الضوء على ما كان يدور في تلك المجالس، التي أقامها الخلفاء والأمراء، من زمن معاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان وهارون الرشيد فالمأمون، إلى مجالس سيف الدولة الحمداني، والمعتمد بن عباد، والصاحب بن عباد، دون إغفال الشخصيات الأدبية النسائية، ومنها: سكينة بنت الحسين، وولادة بنت المستكفي ومي زيادة في العصر الحديث.
الكتاب فيه العديد من الوقائع التاريخية الممتعة والتي تقدم المعلومة بسلاسة لا تعقيد فيها كما يحدث اليوم، إذ يتناول تلك المجالس الأدبية عند العرب، مقدما حكاية متكاملة، تتلاقى فيها ملامح الحضارة والأحداث التاريخية، والتنافس الأدبي الفكري أيضا، الذي كان قائما، وخلدته الأقلام مهما تبدل الزمن وتغيرت الأيام.
تمّام علي بركات