الغــــــــزو
عبد الكريم النّاعم
عرف الإنسان القديم الغزو، بعد أن استقرّ، ونبتت في أعماقه المطامع، فلم يكتف بالسلطان الذي هو فيه بل تطلّعت رغباته المتوحّشة إلى السيطرة على ما ليس له، ولربّما كانت قصّة هابيل وقابيل مفتاحاً رمزيّا لكلّ ما حدث بعدها من قتل ظالم، أقول “قتل ظالم” لأنّ ثمّة قتلا مشروعا وهو حين تدافع عن نفسك وأهلك وأرضك وعرضك ومالك، والذي أعتقده أنّ أسوأ أنواع الغزو، وأخطره، وأخبثه هو الغزو الذي عانت منه بلدان العالم الثالث، والذي بدأته بعض البلدان الأوروبيّة، فامتدّ من مشرق الشمس (الصين) حتى مغرب بلدان الوطن العربيّ، ورغم كلّ التطوّرات التي حدثت في تلك البلدان، مازلنا نعاني من تلك الآثار السلبيّة التي حُفرت في الأعماق بخبث ودهاء كبيرين، ولا شكّ عندي أنّ أكبر الشواهد/ النّموذج على تلك المخلّفات المزروعة بالألغام هي القضيّة الفلسطينية التي مضى على بدئها أكثر من قرن، الآن، ومنذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية تعرّفنا على أنواع جديدة من الغزو، فالغزو بأنواعه الحديثة هدفه حشْوُ خزائن الطغاة بالذهب، وبما يُعادل الذهب، ولا بأس من إبادة شعوب وقبائل وأمم من أجل ذلك!!
عرفنا غزو الفضاء الذي لم يكن بهدف اكتشافات علميّة جديدة لصالح البشريّة فحسب، بل طلبا لمزيد من السيطرة، وأصبحت المكتشفات العلميّة في مرتبة ثانويّة، لأنّ الغاية ليست خدمة البشريّة، بل أرباح الدول والشركات الكبرى، وكم من علوم مكتشفة لو وُظّفت لصالح عموم الناس لكان هذا المجتمع البشريّ في وضع أفضل، ولكنّ أصحاب الطّاغوت يريدونها على مقاس ما يتّسع جشعهم، وهو جشع فيه من صفات جهنّم: كلّما امتلأت قالت هل من مزيد؟!
عرفنا غزو البلدان واحتلالها حتى بعد أن ظنّنا أنّ هذه الصيغة قد ولّت وقُبر زمانها، وشواهدنا الحيّة بين أيدينا، لم يعلُها غبار النّسيان، فمنذ مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، غُزي العراق، ودُمّرت فيه حتى الآثار الشاهدة على قرون خلت، في عمليّة اجتثاث ممنهجة، وضعتْ خططها أخبث العقول الاحتلاليّة الصهيونيّة، وتلا ذلك محاولة احتلال سوريّة، وهاهي الحرب التي نخوضها منذ ثماني سنوات ماتزال دماؤها تسيل، وأعقب ما حدث في سوريّة غزو اليمن بواسطة من يتكلّمون العربيّة ممّن لم يبيعوا أنفسهم للشيطان بل دفعوا المليارات للشيطان الأكبر كي يقبل أن يكونوا خدماً عنده، وعلى رؤوس الأشهاد، غير خجلين من فعلتهم، وغير منتصرين لإهانات كرامتهم العلنيّة، هذا إن كانت لهم كرامة، فإذلال “ترامب” رئيس الويلات المتحدة الأمريكيّة لملوك ومشيخات البترول ليس له سابقة في وقاحته، حتى لكأنّ الكرامة الشخصيّة، والوطنيّة لا وجود لها في قاموس حياتهم!!
الآن نحن أمام غزو جديد هو غزو المستقبل، ومصادرته بحيث لا يكون لهذا الوطن أيّ مستقبل يتمكّن فيه من النّهوض، وهذا لا يتمّ على يد القوى الغربيّة المتصهينة فقط، بل بأيدي أولئك الملوك والأمراء المحسوبين ظلما وعدواناً على هذه الأمّة، إنّنا أمام حروب جديدة تحتاج لابتكار الوسائل الكفيلة بالصمود للوصول إلى دحر هؤلاء الغزاة، ولعلّ المضمون التالي الذي قاله روبرت رايلي مدير إذاعة صوت أمريكا، يُفصح ويفضح، حيث يقول: “إنّ الطبيعة الحقيقيّة للصراع اليوم هي صراع المشروعيّة في عقول وقلوب النّاس والرأي العام، وليس صراع القوى العسكريّة، وإنّ الحروب تُخاض ويتمّ تحقيق النصر أو الهزيمة فيها في ساحات العقول والقلوب قبل أن تصل إلى ميادين القتال”، فهل بعد هذا الكشف من مجال للوهم في المجريات؟!!
إنّنا أما غزو جديد يحتاج لوسائل نوعيّة في المواجهة لا تقلّ ذكاء، ولا إصرارا عن ذكاء العدو وإصراره، بل لابدّ من التفوّق عليه…
aaalnaem@gmail.com