حوار لم ينشر مع د. ملكة أبيض.. “غيمة العطر التي رحلت إلى السماء”
تعود معرفتي بالدكتورة ملكة ابيض شريكة الشاعر الراحل سليمان العيسى في الحياة والإبداع إلى عام 2012 أثناء زيارتي للشاعر الذي كان يرقد في المشفى بحالة صحية لم يكن بمقدوره الحديث، فدخلت معها في حوار حول تجربتها الحياتية مع شاعر نذر نفسه للكلمة والوطن، ولأن التجربة طويلة وغنية كان الحوار طويلاً أجلت جزءاً منه على أمل نشره لاحقاً، والآن أنشره وفاء لها ولحياتها التي قضتها حتى آخر لحظة وهي توثق كتابات الشاعر الراحل لقناعتها أنها المعنية الأولى والأخيرة في الحفاظ على هذا الإرث، وبداية حديثي معها سألتها عن سليمان الإنسان وهي أقدر من يحدثنا عن هذا الجانب فقالت:
يقول سليمان: “القصيدة هي التي تكتبني وليس أنا الذي أكتبها”، تلح عليه، فهو قد يبقى عشرة أيام لا يكتب، لكنه يبقى في حالة تفكير وتأمل وضجر، ويشعر بالضغط، وهذه الفترة تكون حالة مخاض كما يسمونه، وفي يوم ما يبدأ بالكتابة بغض النظر عن المكان والزمان الذي يعيشه، فديوان “صلوات لأرض الثورة” كتبه في عشرة أيام، وهناك قصيدة كتبها خلال 24 ساعة وفي حالة كهذه يسوء مزاجه وينشغل ويطلب ألا يأتي إليه أحد، ونحن بعد أن أدركنا حالته هذه أصبحنا نتركه لوحده لأن طبيعة الشاعر، تختلف عن الباحث، فأنا أضع أوراقي وأجلس إلى طاولتي وأبدا أبحاثي، أما هو كشاعر فإبداعه مختلف، تحتاج الفكرة لفترة اختمار، وعندما تختمر يجلس للكتابة، لكن تصحيح القصيدة يأخذ وقتاً أكثر من كتابتها.
بعيداً عن مشوار حياتكما وتعاونكما في الإبداع والحياة، ما الدور الذي لعبته ملكة أبيض شريكة الشاعر سليمان وتحديداً في السنوات العشر الأخيرة منذ بدأ مرضه؟
دوري كان عادياً جداً، أنا إنسانة مثقفة وأقوم بإعداد بحوث، ومن باب أولى أن أبحث في عمل زوجي ونتاجه، فنحن نعمل في مجال التربية أغلب الأحيان، نجري تجارب وبحوثاً ميدانية، لذلك أنا اكتب عنه الكثير، ولاسيما الكتب الأخيرة منذ بداية مرضه حتى الآن، كلها تضمنت إما مقدمة للكتاب بقلمي أو دراسة عن الكتاب كنت أنشرها بالمجلات، ثم بعد ذلك جمعناها في كتاب “سليمان العيسى في لمحات” بالإضافة إلى ذلك قمت بكل أعمال التصنيف حسب الموضوعات والأمكنة، وهذا العمل كان سليمان كشاعر يعمل فيه لمحات -فكما قلت لك- طبيعة الشاعر تختلف عن طبيعة الباحث الدؤوب، وهذه كانت مهمتي، وأحياناً كنت أقترح عليه الموضوعات ونبدأ بتنفيذها وطباعتها وإخراجها ومتابعتها حتى النهاية، وعندما كان يمل ويراني بقمة نشاطي كان يتابع العمل دون تأفف، ولاسيما بالنسبة لقصص الأطفال المعرّبة، فقد عرّب الكثير من قصص الأطفال، وأثناء التعريب كان يضيف قصيدة أو نشيد لكل قصة من القصص، وهذا العمل كله قمنا به في اليمن، وكنت عندما أحضر إلى هنا في الصيف أجمع كتب الأطفال وأختار منها الكتاب والقصص المناسبة، فسليمان كتب قصصاً للأطفال، وللاطلاع على ما يجري في العالم كنت أجمع ما يُكتب بالفرنسية والإنكليزية وآخذها معي إلى اليمن، وبعد ذلك أبدأ الترجمة، فأنا دؤوبة في العمل، وهذه سمة تلازم كل أكاديمي، وكنت أحياناً أترجم ما يقارب عشر قصص أو 12 قصة وسليمان لا يفكر بالانخراط في هذا العمل، وعندما يرى هذا الكم الذي تجمّع حوله، يبدأ بالعمل أولاً من خلال التبييض الذي يعطيه الأسلوب العربي، والروح العربية التي يريد أن يضيفها على هذه القصص، ثم يكتب نشيداً أو نشيدين لكل قصة، هذه الأناشيد جمعت فيما بعد ضمن كتاب “أراجيح تغني للصغار” أصدرته مجلة دبي الثقافية، والقسم الآخر دار الحدائق في بيروت، وأصدرته بعنوان “حدائق الكلمات” كتابان صدرا من هذه الأناشيد التي كتبت من وحي هذه القصص التي ترجمناها.
وهل كان هناك برنامج يومي يعتمده في حياته، متى يستيقظ، وكيف ينظم وقته؟.
برنامجه اليومي بعد تسريحه من العمل، فعندما كان يعمل في التدريس، فيخرج من مدرسته لتدريس ساعات إضافية، فخلال أيام الكفاح لا تستطيعين القول أن هذا الشخص له نظام معين، لكن نظامه وجد بعد تفرغه في البيت، فعندما كنا في صنعاء كان تفرغه مفيدا جداً لأنه كتب ستة دواوين هي “الثمالات الخمس” كلها كتبت في اليمن، وحتى بعدها جاء “الكتابة بقاء” وبعدها تواصلت الدواوين وأنتج كثيراً، أما برنامجه الآن فقد رتبت وقتي بناء عليه، إذ كان يستيقظ في الصباح باكراً، وأنا أجهد أن أبدأ ساعات التدريس في الصباح الباكر ليبقى النهار كله معي، فيستيقظ معي، وبعد أن أذهب كان يرتدي لباسه، ويجلس بكامل أناقته إلى مكتبه الذي خصصته له ولديه مجلاته وكتبه وأوراقه، يجلس يفكر، يكتب، يسجل بعض الملاحظات، وقد التزم في تلك الفترة جداً، وأنا كنت أترجم له الكتب وأضعها أمامه، كما ارتبط بعمل كان يكتبه لجريدة الخليج، بالإضافة إلى القصائد الشعرية والكتب التي كان يؤلفها، وطبعاً كان يبقى لوحده فترة غيابي حتى أعود من عملي ونشرب القهوة معاً ونرتاح، بعد ذلك كل واحد منا ينصرف إلى طاولته ونعمل حوالي ثلاث أو أربع ساعات، وهو كما قلت لك كان له مزاجه الخاص، ينزعج من فتح الباب وإغلاقه، أيضاً بعد الظهر كانت هناك فترة ثقافية، بمعنى علاقتنا الاجتماعية في تلك الفترة كانت محدودة، لم نكن نترك وقتنا مفتوحاً للناس، كنا نتنزه بشكل يومي أيام العطلة، نخرج الساعة السادسة صباحاً ونتجول في الحدائق، فنحن كنا نسكن في الحرم الجامعي، ثم ننهي جولتنا ونعود إلى المنزل، وهكذا كانت فترة وجودنا في اليمن غنية بالكثير من العمل والهدوء والراحة.
وتجربته مع الأطفال ميزت تاريخه، كيف كانت تجربته مع أطفاله؟
هو أب حنون وقد كتب لابنتنا بادية قصائد متعددة وكتب لأخوتها أيضاً الكثير من القصائد وكان متعاوناً معي جداً في تربيتهم، والاهتمام بهم، ورعايتهم، ومعهم كان يعود طفلاً صغيراً ولو أن طفولته لم تفارقه حتى الآن.
باعتبار أنكما على خطين متوازيين في الإبداع، واضح من حديثك حالة الإيثار التي عشتها مع زوجك وبيتك، فمتى كنت تتفرغين لنفسك ولأبحاثك؟ وأنت التي ضحيت كثيراً من أجل عائلتك؟.
أنا لا أعتبر نفسي ضحيت لأن حياتنا المشتركة كانت غنية، ولو فكرت أن أعيش مستقبلي بعيداً عنه لكانت حياتنا باهتة ومقفرة، فوجودنا مع بعضنا أعطى الحياة طابعاً أجمل, أكثر غنى، وإذا تحدثنا عن التضحية فهو أيضاً ضحى، فأنا بعد خمسة عشر عاماً من زواجنا رُشحت للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث أنني عندما تزوجت كنت حاصلة على الشهادة الجامعية من بروكسل في التربية وعلم النفس، وخلال 15 عاماً أنجبنا أولادنا الثلاثة، وعندما أتتني المنحة الدراسية ترددت وكدت أن أرفضها، إلا أن سليمان أصر على أن أقبل المنحة وأسافر، وطمأنني بأنه هو والأولاد يستطيعون أن يتدبروا أمورهم، وبالفعل سافرت إلى بيروت وكنت أحضر إلى البيت يوم السبت ظهراً وأبقى ليوم الأحد ثم أعود إلى بيروت، وعندما انتقلنا من حلب إلى دمشق عام 1967 أصبحت المسافة أقصر، لكن التعب نفسه، وعندما كتبت رسالتي الجامعية، العائلة كلها نظمت وقتها مع وقتي، صباحاً نتناول الإفطار معاً، وأنا أتفرغ لدراستي بعد أن يذهبوا هم إلى أعمالهم، وأبقى في دراستي حتى الواحدة ظهراً، ثم فترة الغداء نجلس مع بضعنا بعض الوقت ثم أعود أنا لدراستي لعدة ساعات، وهكذا استمر الحال إلى أن أنهيت دراستي، ونلت شهادة الدكتوراه، فالعائلة كما قلت نظمت وقتها حسب حاجاتي أنا، وفي الأحوال الأخرى أقول: إن حياتي كانت غنية في مشاركتي سليمان العمل لأن لي ميولاً أدبية منذ الصغر، فعندما دخلت واشتغلت في التربية وعلم النفس وضعت اهتماماتي الأدبية جانباً، ثم بعد ذلك وخلال عملنا في الأدب باستمرار هذا كله ساعدني واستعدت ميولي الأدبية وهي التي ساعدتني على الكتابة والترجمة وغيرها من أعمال الأدب، ولي الكثير من المقالات الصحفية والبحوث الأدبية، وهذا كله أنتجته من خلال عملي مع سليمان، فوجودي بجو أدبي جميل ساعدني أن أعطي دون تعب أو ملل، ودوري في العمل مع سليمان أن أحقق له الأرضية والظرف المناسب للكتابة والإبداع وقد ترجمت خمسة كتب منها (أحكي لكم طفولتي يا صغار، مختارات من شعر سليمان العيسى) طبعاً هذا كله بالتشاور مع سليمان.
سلوى عباس