ذاكرة الروح
سلوى عباس
في مساء حزيراني ضَجِرٍ من عام 2012 أتاني صوت الصديقة الغالية هيام حموي مثل حلم يسدل عباءة الغبطة على الروح تدعوني إلى برنامجها “نجوم الصباح” وكان من أجمل الحوارات، ومن تقاليد البرنامج أن يختار الضيف مجموعة من الأغاني الفيروزية كمحطات مرافقة للحوار ويشرح عن سبب اختياره لهذه الأغنيات، وكم كانت سعادتي كبيرة أن صباحي سيشرق بأيقونتين جميلتين “فيروز وهيام”، واخترت مجموعة من الأغنيات الفيروزية القديمة، فمنذ صغري والموسيقا والأغاني تأسرني وتحلق بي في سماءات بعيدة.. تنشر في روحي ابتسامة من نهارات ندية وكل أغنية تفسح في قلبي فسحة من تأمل ترسل لي من لدنها غمامة من بهاء الحياة.
أولى اختياراتي كانت أغنية “تخمين” عندما تقول فيروز: “بآخر هاك البستان في ممرق بيجيب ع بالي البكي..” هذه الأغنية بكلماتها ولحنها تعيدني إلى مرحلة الطفولة حينما كنت أذهب إلى الضيعة وكان هناك بستان مظلل بالأشجار فيه ممر طويل، كنت ألعب فيه، وأشعر أنني أمتلك نفسي والمكان، لا أحد يقاسمني شيء، أعيش أحلامي الطفولية البسيطة فيه، وكلما سمعت هذه الأغنية تعود إلى ذاكرتي ذكرى هذا البستان والأوقات الجميلة التي قضيتها فيه.
اختياراتي الفيروزية كانت قديمة بعض الشيء، ولم أختر من جديدها أي أغنية، ليس لأنها لا تعجبني فأغنيات فيروز لا تجزأ بين قديم وجديد، نحن نواكبها بكل جديدها، لكن ربما لأن القديم من أغنياتها يشكل ذاكرتنا الجميلة التي نفتقدها الآن، ونستعيد عبرها صوراً من حقيبة الذكريات تفرش لحظاتنا بالحنين.
وسألتني هيام ماقصة أغنية “وقف يا أسمر” وإذا كان هناك “أسمر” مفترضة أنها فترة المراهقة؟ والحقيقة أنني لم أعش فترة مراهقة كما هو متعارف عليه في هذه المرحلة من العمر، والقصة كلها أن هذه الأغنية كانت بداية لرسالة أرسلها لي شاب مراهق من عمري تقول: “وقف يا أسمر تصدح بها حنجرة فيروز الآن، لكني لن أكتبها لك، بل اخترت مقطعاً من قصيدة لنزار قباني”، لكن للأسف لأن الحالة لم تتجاوز قراءتي للرسالة لم أعد أذكر القصيدة، وعقبّت هيام: “استخلصتني وخبرتني شو بها وحكت عن سر وأنت الآن تحدثت عن سر طفولي”، ربما هذه الأغنية لها حضورها لدى جيل كامل.
“حاجة تعاتبني يئست من العتاب” قصتها تعود إلى أحد الصباحات البعيدة في الزمن قليلاً لكنها قريبة للروح كثيراً، إذ استيقظت على أنغام هذه الأغنية فانتابتني حالة من الانشراح والغبطة لازلت أعيشها كلما سمعت هذه الأغنية.
أما أغنية “ياحلو شو بخاف أني ضيعك”، فليس من مبرر لهذه الأغنية سوى الخوف من الفراق وحبي لمحيطي وخوفي عليهم دائماً.
وأغنية “هونيك في سجرة”.. كانت تعني لي في زمن مضى صوراً بلاغية تحلّق بخيالي وتأخذني إلى مطارح جميلة جداً، لكن الآن وبواقعنا الراهن تحولت هذه الأغنية لحقيقة نشعر أن كل شخص فينا يعيش لوحده منعزلاً مع ذاته، وأصبحنا نعاني من الوحدة حتى ونحن مزدحمون بالناس.
ولأننا محكومون بالأمل كان اختياري لأغنية “بتشوف بكرا بتشوف شو دارنا حلوة” يعبر عن حالتين: الأولى أنني عندما أسمعها تحضر في ذهني المقارنة بين بيوتنا في الأمس حيث كانت أكثر رحابة واتساعاً بإطلالاتها الجميلة والجنائن تسوّر البيوت، بينما الآن أصبحت كتل الاسمنت تغطي المساحة كلها، واستبدلوا عرائش الورود والأشجار بأصص الزريعة الصغيرة. والحالة الثانية التي أعيشها مع هذه الأغنية هي الأمل بأن تعود سورية جديدة بشبابها وناسها، وجديدة بالرمز الذي مثلته على مر الزمن، وأن تعود القصص الجميلة، والأمل بالأجيال الجديدة أن تبتكر طريقة جديدة لإعادة الهواء النظيف لهذا البلد.
ويبقى السهر جميلاً على سطح الدار، ولمّة الأهل والجيران حيث “القلب ع القلب، والمحبة ألق الروح” برفقة ضوء القمر وصوت فيروز يشدو “حلو ياقمرنا ع سطح الدار”.