مع انتشارها ظاهرة التنمر في المجتمع.. سلوك خارج نطاق السيطرة ورغبة ملحة للفت الانتباه
يشكّل التنمر مجموعة من الأفعال المتكررة على مر الزمن، والتي تنطوي على خلل قد يكون حقيقياً أو متصوراً في ميزان القوى بالنسبة للطفل ذي القوة الأكبر، أو بالنسبة لمجموعة من الأطفال تسيء لمجموعة أخرى أقل منها في القوة، ويأخذ أشكالاً كثيرة، منها التحرش اللفظي، والتنابز بالألقاب، والعاطفي، والاعتداء البدني، والاستبعاد من النشاطات، أو من المناسبات الاجتماعية، وفق ما أكدته الدكتورة منى كشيك، كلية التربية، جامعة دمشق، وبعض الولايات الأمريكية تمتلك قوانين ضد ظاهرة التنمر، وباعتبار أن التنمر يمارس عن طريق الخوف أو التهديد، لذلك يمكن الحد منه عن طريق تعليم الأطفال المهارات الاجتماعية للتفاعل الناجح مع العالم، وتمكينهم من التعامل مع بعض الناس المزعجين، ومن أبرز أسباب هذه الظاهرة أن المتنمرين أنفسهم كانوا ضحية التنمر كالطفل المتنمر الذي يساء إليه في المنزل، أو كالمتنمرين البالغين الذين تعرّضوا للإساءة في صغرهم، ويمكن أن يتصرف المتنمرون بهذه الطريقة كي يُنظر إليهم على أنهم محبوبون، أو أقوياء، أو لمجرد لفت الانتباه إليهم، ويمكن أن يقوموا بالتنمر بدافع الغيرة، أو لشعورهم بنقص في تقدير الذات، أو القلق على الحفاظ على صورة الذات، وشعورهم بالتكبر، أو بالنرجسية ، ويمكن أيضاً أن يستخدم التنمر كأداة لإخفاء العار أو القلق، أو قد ينتج بسبب سوء فهم أفعال الآخرين على أنها معادية، وقد يكون التنمر أيضاً نوعاً من “التقليد” في الأماكن التي تشعر فيها الفئة العمرية الأكبر أو المرتبة الأعلى أنها متفوقة عن المراتب الأقل، كما يقوم بعض الأطفال بالتنمر لأنهم بقوا معزولين لفترة من الزمن، ولديهم رغبة ملحة في الانتماء، وذلك عند عدم امتلاكهم المهارات الاجتماعية للاحتفاظ بالأصدقاء.
أشكال متعددة
وتابعت الدكتورة “كشيك”: يحدث التنمر في أي مكان من أمكنة المجتمع وفعالياته، ويمكن أن يكون في أماكن العمل الذي يعرف بـ “الاغتيال الوظيفي”، وهو من الأفعال الضارة بالصحة، والمبنية على إساءة لفظية، أو على سلوك تهديدي ومهين وترهيبي، أو على التخريب الذي يتداخل مع العمل، أو على مزيج من هذه العناصر آنفة الذكر، وتظهر الإحصاءات أن موظفاً واحداً من بين 10,000 موظف يكون ضحية للعنف في العمل، وأن هناك واحداً من بين كل ستة موظفين في العمل يواجهون التنمر، وليس بالضرورة أن ينطوي التنمر في العمل على أعمال غير قانونية، ومع ذلك تكون الأضرار التي لحقت بالموظف المستهدف، وبالروح المعنوية لمكان العمل واضحة، كما يمارس التنمر في المدرسة من مجموعة من الطلاب لديهم القدرة على عزل أحد الطلاب بوجه خاص، ويكتسبون ولاء بعض المتفرجين الذين يريدون تجنب أن يصبحوا هم الضحية التالية، ويقوم هؤلاء المتنمرون بالتهديد واستنزاف قوة ضحيتهم قبل الاعتداء عليهم جسدياً، وللتنمر آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، حيث يكون الضحايا عرضة لخطر الأمراض المتعلقة بالضغط النفسي، والتي من الممكن في بعض الأحيان أن تؤدي إلى الانتحار، حيث أكدت دراسة بريطانية أن هناك رابطاً قوياً بين التنمر والانتحار، وأن ما بين 15 و25 طفلاً ينتحرون سنوياً في بريطانيا وحدها، لأنهم يتعرّضون للتنمر، كما يمكن أن يعاني ضحايا التنمر من مشاكل عاطفية وسلوكية كالشعور بالوحدة، والاكتئاب والقلق، وتدني تقدير الذات، وقد يكون التنمر من أهم أسباب الهجرة عند ممارسته بين الفئات الاجتماعية والطبقات الاجتماعية، وقد أثبتت العديد من الدراسات أنه إذا لم يتم التصدي للتنمر في الطفولة، فإن ذلك يضع الأطفال في خطر السلوك الإجرامي، والعنف المنزلي في مرحلة البلوغ، كما تعتبر ظاهرة إطلاق النار في المدارس من الظواهر المتعلقة بالتنمر، فعلى سبيل المثال توصلت بعض الإحصائيات الأمريكية إلى أن أكثر من ثلثي حالات المهاجمين في حوادث إطلاق النار في المدرسة شعروا بالاضطهاد والمضايقات والتهديدات والاعتداءات، أو تم جرحهم من قبل الآخرين قبل الحادث، ويكون التنمر غير مباشر، ويُعرف أيضاً باسم العدوان الاجتماعي، ويتميز بتهديد الضحية بالعزل الاجتماعي من خلال نشر الشائعات، ورفض الاختلاط مع الضحية، والتنمر على الأشخاص الآخرين الذين يختلطون مع الضحية، ونقد أسلوب الضحية في حياتها اليومية، وغيرها من العلامات الاجتماعية الملحوظة كالعرق، والدين، ويمكن أن ينتشر التنمر عبر الأنترنت من خلال نشر المنشورات التشهيرية، أو حتى من خلال الألعاب الالكترونية مثل ألعاب الببجي، والحوت الأزرق التي أودت بحياة الكثير من الأطفال، والمراهقين من خلال حالات الانتحار أو العنف، كما يمكن للمتنمرين أن ينشئوا مدونات على مواقع التواصل الاجتماعي لترهيب الضحايا على مستوى العالم، كمقاطع فيديو التصفيات الجسدية التي نشرها تنظيم داعش الإرهابي إبان عدوانه على الأبرياء في سورية والعراق.
التفكك الاجتماعي وتراجع القيم
أحمد الأصفر، أستاذ في قسم علم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة دمشق أوضح أن المقصود بمفهوم التنمر هو ممارسة أنماط سلوكية مبنية على المغالاة بالاعتداد بالنفس والثقة بها، والحصول على مزايا ومنافع تعتبر من حقوق الآخرين، دون النظر إلى ما يترتب على هذه الأنماط السلوكية من أضرار تمس الأفراد الأضعف، وأن السلوك المرتبط بظاهرة التنمر يختلف عن السلوك العدواني في أنه مبني على العقلانية، ويقين المعتدي بأن المعتدى عليه ضعيف ولا يقوى على الرد، فلا يمارس المعتدي عدوانيته مع كل الأشخاص بشكل عشوائي، كما يتسم التنمر بالاستمرارية والتكرار، فالشعور بحتمية التفوق والانتصار يدفع المعتدي إلى تكرار عدوانيته مع الأشخاص الذين يعتقد أنهم الأضعف، كما يلاحظ أن سلوك التنمر بحق الآخرين لا يأتي من القوة النفسية، أو الجسدية، أو الاجتماعية للمتنمر، بل يأتي من مشاعر الضعف التي تتصف بها الضحية حتى لو اقتصرت على الضعف النفسي، وينطوي سلوك التنمر في خصائصه العامة على البعد الاجتماعي بالدرجة الأولى، فوجود من يمارس سلوك التنمر من جهة، ووجود من يتقبّله بين أفراد الجماعة الواحدة من جهة أخرى يساعد في انتشار مظاهر الانحراف، كالتدخين في البدايات، وتعاطي الكحول، وتعاطي المخدرات فيما بعد، وغيرها من الأنماط السلوكية المنحرفة، ويعتمد انتشار ظاهرة التنمر في وسط اجتماعي معين على التفكك الاجتماعي، وتراجع القيم الأخلاقية والإنسانية المحددة لأوجه التفاعل الاجتماعي، ويصبح ضمان المصالح الفردية بمثابة الموجه الأساسي للسلوك، وتحجب الرغبة في تحقيق المصالح الفردية إمكانية فهم المصالح العامة وإدراكها، في حين تتراجع ظاهرة التنمر عند تمثّل الأفراد للقيم الأخلاقية والإنسانية التي تجعل من احترام الآخر ومساعدته في تجاوز نقاط الضعف في شخصيته ضرورة حتمية لبناء المجتمع بناء سليماً، ولابد من التنويه بأن خطورة التنمر تزداد عند انتشاره لدى قادة الرأي في المجتمع من تجار، واقتصاديين، واجتماعيين، وإداريين، وموظفي دولة، حيث تستقر في الوعي الاجتماعي سلامة هذا النموذج السلوكي، ويصبح من سمات تفكير الأب، والأم، والمعلم، والأقران في الحي والمدرسة، ما يدفع حتى الأطفال إلى استحضار هذا النموذج في كل علاقة اجتماعية يقيمونها مع الآخرين، فإذا كان الطفل في موقع القوة وجب عليه استخدام مظاهر القوة لممارسة السيطرة على الآخر، وتوجيهه وفق مصالحه، وإذا لم يكن في موقع القوة سيستسلم للآخر ويخضع له، في حين تغيب عن الوعي فكرة التعاون لتحقيق الغايات المشتركة، وتعد التربيتان المدرسية والأسرية من أبرز الحلول لهذه الظاهرة السلبية، لما لهما من دور أساسي في تكوين شخصيات الأفراد، ويبرز هنا دور معلم الصف والمرشد الاجتماعي، وإدارة المدرسة، فصرف النظر عن سلوك عدواني تنمري يمارسه أحد طلاب المدرسة بسبب الموقع الاجتماعي أو الوظيفي أو المهني لوالده يشكّل عاملاً إضافياً من عوامل انتشار ظاهرة التنمر في الوسط المدرسي، ويشكّل خطورة على البنية الاجتماعية برمتها اذا ما تحطمت صورة المعلم، أو صورة المدير، أو صورة المرشد الاجتماعي في وعي من يمارس السلوك المتنمر، أو في وعي من يمارس عليه هذا السلوك، كما أن المسألة لا تمس من سبق ذكرهم آنفاً فحسب، بل تمتد إلى السخرية بالنظام التعليمي بكليته، وبقيم الانضباط على المستوى الاجتماعي العام.
وجوب احترام القانون لمواجهة التنمر
الدكتور علي الحصري، كلية التربية، جامعة دمشق، أكد أن أخطر مظاهر التنمر في المجتمع هو عدم تمكن الآخرين من الاعتراض أو الشكوى بعد سلب حقوقهم والاعتداء عليها، وذلك سببه الأساسي عدم احترام الجميع للقانون، وعدم تطبيق القانون على الجميع بشكل متساو، أو خوف الضحية من قوة المتنمر، وعدم التزامه بالقوانين، حيث يظن الشخص أو مجموعة الأشخاص المعتدين أنفسهم فوق القانون، ولا يحترمون مؤسسات الدولة، أو المبادىء الأخلاقية نتيجة ظنهم أن القانون غائب، أو أن القانون عاجز عن محاسبتهم، أو ظناً منهم أنهم يفعلون ما هو صحيح، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالانتقام، أو الثأر، أو استرداد حقوقهم بالقوة بعد عجز القانون عن استردادها، أو عندما يتأثرون بالأيديولوجية الفاسدة الهدامة، فمثلاً تنظيم إرهابي متطرف يقوم بالتفجيرات وترويع الأبرياء ظناً منه أن ذلك من مبادىء الدين أو لنشر الدين، وتنتشر ظاهرة التنمر في مجتمعنا على نطاق واسع في ظل الأزمة بسبب استغلال الكثيرين لانشغال السلطات بمكافحة الإرهاب، بل واستغلال البعض للمميزات، والتكريم الممنوح لهم لدورهم في مساعدة سلطات الدولة، للتعدي على حقوق الآخرين، وتحقيق غاياتهم الشخصية، واستغلال الأزمة لصالحهم أبشع استغلال، وتطاول البعض منهم على مؤسسات الدولة والأفراد ظناً منهم أن حجمهم يوازي حجم مؤسسات الدولة نتيجة تعجرفهم وجهلهم لمفاهيم الدولة والمواطنة، كما أن التنمر يمكن أن يوجد في العمل، حيث إن وجهات نظر المرؤوسين يمكن أن تكون عاملاً خطراً عليهم بشكل خاص لأنها تتعارض مع وجهات رئيسهم الإداري الذي يشعر بالخطر منها، لأنها قد تهدد وجوده في منصبه لقلة كفاءته تجاه كفاءة ذلك المرؤوس أو قلة نزاهته، وأكد الدكتور الحصري أن علاج هذه الظاهرة لا يكون من خلال الحلول المؤقتة أو الإسعافية كإلقاء القبض على واحد أو مجموعة من المتنمرين، فلابد من اجتثاث أسباب هذه الظاهرة المدمرة من خلال تطبيق القانون، وضمان احترامه من قبل الجميع، وإحلال مبدأ احترام حقوق الآخر بدلاً منها، والإيمان بأن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.
بشار محي الدين المحمد