الشتائم والسُباب في وجه النقد
كتب جرجي زيدان-1861-1914، الأديب والروائي والمؤرخ والصحفي السوري، المولود والمتوفى قبل معاهدة الشؤم “سايكس بيكو-1916″، عن النقد في مجلة الهلال: إن الانتقاد يعني إبراز جوانب الاستحسان والنقص على السواء وأن كلمة (انتقاد) ليست تعني إحصاء العيوب وحدها ونريد من باب (الانتقاد والتقريض) كلا الجانبين، بإبداء رأيهم فيما يسمعونه إن حسنا أو قبيحا فدعوناه لذلك (باب التقريض)، والانتقاد تقريبا من معنى المراد، وما فتحناه إلا لعلمنا بما يترتب عليه من الفائدة الحاصلة من تناول الآراء وأن العاقل من أعتقد الضعف في نفسه وعلم أن انتقاد ما يكتبه أو يقوله، لا يحط من قدره، إذ أننا لا ننتقد إلا ما نراه جديرا بالمطالعة ومستحقا للانتقاد.
مما كتبه الفذ “جرجي زيدان” ندخل إلى ما نريد الإضاءة عليه. إذ ثمة حالة سلبية جدا بل وعدائية، يواجهها “النقد” عموما في البلاد، سواء كان نقدا أدبيا أو فنيا، رياضيا، سياسيا…الخ، وكأن كل ما نقوم به كامل الأوصاف، لا يأتيه حتى النقد لا من أمام ولا من خلف، والغريب، أن معظم المشتغلين في المهن الإبداعية، الأدبية منها والفنية، والذين يدخل النقد في مفهوم عملهم وصلبه، إن كان في الدراما عموما، والبرامج المنوعة، أو مختلف صنوف الأدب، رواية، شعر، قصة قصيرة وغيرها، هؤلاء قبل غيرهم هم من يستنكرون ويستغربون ولا يريدون أن يُقال فيما يصنعون أي كلمة حق، تبين نقاط الضعف في ذلك المسلسل، أو تلك المسرحية، في هذا الديوان الشعري وذاك البرنامج وغيره، أما ما يطربهم وله تهفو أذانهم، فهو التصفيق والتطنيب وكيل المديح بسبب وبدونه، وكل ما عدا ذلك، فهو يدخل عندهم في حالة “أعداء النجاح”، والمصيبة أنهم مقتنعون بذلك تماما!، وغالبا ما يُقابلون أي نقد بالشتائم والسباب وتجييش رفاق “الفيس” للدعم في هذا، تخيلوا هذا الحال أيها السادة، في بلد عانى من النفاق و”تبييض الطناجر” ما عانى ولا يزال.
المشكلة أن النتائج على أرض الواقع، هي من تثبت إن كانت حالة النقد صحية أم أنها العكس، مثلا، كُتب أكثر من 1000 مقال ربما عن أحد مسلسلات البيئة الشامية، الذي اشتغل وبقصد على تشويه هذه البيئة، وتقديمها بالشكل الأسوأ، وهذا ما أخبر به فنانون كبار، ونُقاد أفذاذ يعرفون تفاصيل هذه البيئة تماما، ورغم ذلك استمر العمل الذي روج في بعض أجزائه لاقتتال الأخوة، ولتحجيم المرأة وجعلها مصدرا للشر وللمتعة فقط، وها هو اليوم محل سخرية الجميع، لكن هذا لم يُقنع صُناعه عن الكف عما يقترفون من جرائم فنية واجتماعية وإنسانية أيضا، وهم في غيهم ماضون.
الذي لا يدركه البعض أن النقد ليس حالة صحية فقط، بل وضرورية، ويعول عليها في العديد من الدول المحترمة لرفع الذائقة العامة، حتى أنها تُستخدم سياسيا لتوجيه الرأي العام خصوصا في الأزمات، لكنها لدينا تُقابل بعدائية وشخصنة وسوء قبول لا يُصدق! أقول هذا بحكم عملي في هذا الشأن منذ قرابة الـ 15 عاما، إن كان في النقد الأدبي أو الفني وما يندرج ضمنه، والصادم في الأمر، أنكم ترون فنانين (كبار) يهزهم ويزعزع كيانهم مقالا نقديا مهنيا، وعوض أن يقوموا بالرد عليه، وهذا أمر متعارف عليه في أي منبر إعلامي محترم، وفي الجرائد عموما، للرد الحق في أن ينزل في الموضع نفسه الذي نزل فيها مقال الناقد، عوض هذا بجوانبه الإيجابية في كونها تنتج حالة حوارية مهنية وتنويرية، يذهب الكُثر إلى مواقع التواصل الاجتماعي للرد، وهناك تبرز عضلات هواتفهم الذكية، في إطلاق الشتائم والصفات المعيبة بحقهم أولا لو أنهم يعلمون، وفي الوقت الذي تنتظر ردا مهنيا على مقال نقدي، تناول شأنا ما من الشؤون التي يتناولها عادة، يجيء الإسفاف بكامل قيافته ليقف في وجهك، فبماذا يمكن الرد على الإسفاف؟ لو كانت الحالة النقدية عموما لدينا في أفضل حالاتها، لما وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، والتاريخ يُذكرّ، إنه لمُذكر.
تمّام علي بركات