“الأقدام السوداء” و”البوابة الإسرائيلية”
كما كان متوقّعاً، ومع ارتفاع منسوب التفاؤل باستئناف السياسة كطريق وحيد، واجباري، لحلّ الأزمة في سورية، بعد التقدّم الملموس في مسألة “اللجنة الدستورية” العتيدة، ارتفعت بالمقابل أيدي جميع المتضررين من ولوج “الطريق السياسي”، إما اعتراضاً على هذا “التقدّم” ووجهته، أو محاولة لتجييره لصالحهم، وهو اعتراض تمّ، في الحالتين، عبر طرح الأوراق كافة على الطاولة، سواء تلك التي تُستخدم للضغط والإكراه، أو تلك التي تُستخدم لفتح بوابات ونوافذ وتعبيد طرق ومسالك جانبية مشبوهة، وإذا كانت الأولى “مفهومة” و”مشروعة” في العالم الواقعي للسياسة، إلا أن الثانية غير “مفهومة” وغير “مشروعة”، بل إنها، في الجوهر، إعلان ولوج طريق الإفراط والتفريط بالحقائق الوطنية الراسخة.
وبالطبع، كان لا بدّ، في هذا المناخ، لورقة “الكيماوي” أن تظهر، وقد ظهرت متسلّحة بتكليفات جديدة تتجاوز فيه دورها الطبيعي ومهماتها المعتادة لتوحي بخطورة الرهانات المبنيّة عليها، فيما ارتفعت وتيرة استخدام ورقة الحصار الاقتصادي إلى درجة كبيرة، فكان قرار السفير الأمريكي في الأردن واضحاً وحاسماً، بإغلاق معبر نصيب فعلياً– ومن المؤسف هنا أن استجابة “الإخوة” كانت بذات وضوحه وحسمه- وكان شرط لندن، عاصمة الامبراطورية التي غابت عنها الشمس، للإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية التي قرصنتها في المياه الدولية ألا تتوجه إلى سورية..!!، وبالطبع أيضاً، وكما تعلّمنا التجارب السابقة، سترتفع في القريب العاجل ورقة المهجّرين السوريين، وستشهد قاعات الأمم المتحدة اجتماعات متتالية للجان حقوق الإنسان الدولية، على أن يكون المتحدّث الأبرز فيها السعودي والقطري باعتبار أن كلاً منهما هو “الأم تيريزا” في هذا المجال.
وإذا كانت الأوراق السابقة، أي أوراق الضغط والإكراه، هي أوراق اعتيادية بصورة أو بأخرى، بمعنى أننا “قرأناها” كلها في المرحلة الماضية، إلا أن ما يحزّ بأنفسنا، كسوريين، هو الأوراق التي تُستخدم لفتح البوابات الجانبية لتحقيق أطماع وأوهام قديمة بحجة الظرف التاريخي المناسب، وهي في الأغلب الأعم تُستخدم من قبل “مواطنين” – كما تقول بطاقات هوياتهم – لكن الدرس التاريخي يقول لنا إنهم سرعان ما يتحوّلون إلى “أقدام سوداء” وفق التسمية الجزائرية، المعبّرة جداً، للمتعاونين المحليين مع المحتل.
وإذا كانت الظاهرة، أي “الأقدام السوداء”، ليست جديدة علينا، فهي قديمة من قدم الحرب، لكنها اليوم تتمظهر بصورة رئيسية في تيارين: الأول مازال يحاول الاستفادة من الغطاء الخارجي والاحتلال لتحقيق أطماع محددة ضمن خارطة الدولة، وهو اليوم يتحضّر، بإمرة الخارج، للولوج إلى “الدستورية” مكتفياً بخلع بدلة الإرهاب وارتداء بذة سوداء وربطة عنق ملوّنة للسيطرة على الدولة من الداخل، وبالتالي تحقيق هدف الإركاع والاستتباع، والثاني يحاول الاستفادة من الغطاء الاحتلالي لتحقيق أوهام انفصالية ذاتية، يعرف بحكم التجربة، أن عرابتها الفعلية هي “إسرائيل” – هدفها التاريخي إقامة كانتونات متناقضة متحاربة بجوارها – وأن “بوابة” ذلك هو إرضاؤها والسير في ركابها، وهو ما تكشفه تصرفات وأعمال ما يُسمى “مجلس سورية الديموقراطية”، فبعد استضافته المتكررة للصحافة “الإسرائيلية” وتنسيقه الميداني مع ضباط “إسرائيليين”، فوّض مؤخراً رجل أعمال “إسرائيلي” بتمثيله في جميع الأمور المتعلقة ببيع النفط السوري المنهوب من المناطق التي يسيطر عليها بدعم كامل من قوات الاحتلال الأميركي، وهو يضيف بذلك إلى “خطأ” التصرّف المنفرد بثروة الوطن كله، “خطيئة” المساهمة – من حيث يدري – في مخطط التقسيم الذي لم يرفع عن الطاولة بعد، خاصة في ظل الفشل في ضرب إيران، وبعد الفشل الذريع في تغيير التوجهات الاستراتيجية للدولة السورية.
بيد أن للتاريخ دروسه المعبّرة والحاسمة في هذا المجال وغيره، فإذا كانت “الأقدام السوداء” قد اعتبرت، تاريخياً، أنها تستطيع استخدام يد المحتل الباطشة لتحقيق أهدافها، لكنها، واقعياً، لم تكن سوى أقدامه التي وطأ بها أهلهم وأوطانهم، ثم قطعها حين رحل – ولو بعد حين – مدحوراً مذموماً، و”جيش لحد” أنموذج فاضح، و”طازج”، في هذا المجال.
أحمد حسن