أخبارصحيفة البعث

المقاومة بين الخيمة والميدان..

د. صابر فلحوط

(من الخيمة إلى الميدان)، دراسة معمّقة، وسرد تاريخي موثّق ومسؤول، صعدت عن دار العرّاب بدمشق للدكتور طلال ناجي في أكثر من ستمئة صفحة من القطع الكبير، وترتقي هذه الدراسة الموسوعية والسياسية إلى مستوى التراجيديا المترعة بالوقائع والأحداث التي تشتم فيها رائحة الدم المقدس، والكفاح النبيل، والبطولات الأسطورية لشعبنا العربي الفلسطيني في أشرس مرحلة من الصراع ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني..

وقد وفق الكاتب غاية التوفيق في تقديم  ذكرياته ومواجعه في هذه الصفحات بعدما تقسّمت حياته أشطاراً بين الخيمة في شقائها وتعاستها ومواجعها، وبين الميدان وما فيه من تمرّد وصلابة وعنفوان. وقد حمل الدكتور ناجي أوسمة يحلم بها كل مناضل قدّر له أن يعيش وفق الانكسارات والانتصارات العربية وأن يكون جزءاً منها قولاً صادقاً، وفعلاً مقداماً، بدءاً بالنكبة 1949، ومروراً بقيامة الثورة الفلسطينية التي حملت بندقيتها الأولى من سورية العربية (1965)، بل من الجزء الشمالي من فلسطين على حد تعبير القائد الخالد حافظ الأسد، ومروراً بنكسة حزيران (1967) وفقدان القدس والضفة والجولان وسيناء، مع إطلالة واثقة ومشرّفة على معركة الكرامة، وحرب تشرين التحريرية أشمخ أيام العز القومي في القرن العشرين. مع الإشارة المحزنة والمخزية في آن لنكوص السادات ووداعه السلاح في الأسبوع الأول لحرب تشرين، والارتماء في الحضن الأمريكي، استسلاماً مهيناً لصديقه هنري كيسنجر الصهيوني العتيق الذي قدّم له السادات مفاتيح أرض الكنانة بكل ما فيها من “أهرام، ونيل، وتراث عبد النصير”.

وبالرغم من خسارة، هذا المناضل العنيد – الدكتور طلال ناجي – جزئين غاليين من جسده، في معركتي الخيمة والميدان (عينه وساعده)، فقد زادته حرارة الإيمان وقدسية الميدان شراسة وشجاعة وصموداً تتحدث عنها صفحات هذه المذكرات تقول الدكتورة بثينة شعبان مستشارة السيد رئيس الجمهورية العربية السورية للشؤون  السياسية والإعلامية في مقدّمة المذكرات: يعد كتاب المناضل الدكتور كمال ناجي (من الخيمة إلى الميدان) صفحات موثقة سياسية وإنسانية  عن مسيرة مناضل يحمل الهم العربي والفلسطيني في ثناياه، وتحركاته كلها. كتاب (من الخيمة إلى الميدان وثيقة تاريخية في غاية الأهمية لأحداث الصراع العربي “الإسرائيلي” والأحداث السياسية الداخلية، وتقاطعات وتشابكات هذه السياسات التي تظهر تجلياتها الأخيرة للمواطن العربي)، وقد حفلت مذكرات الدكتور ناجي بمعلومات غاية في الدقة والموضوعية المسؤولة عبر حوارات هامة كان شاهداً عليها، وجزءاً منها بين قيادة الجبهة الشعبية “القيادة العامة” ممثلة بالمناضل أحمد جبريل وأركان قيادته، والقائد الخالد حافظ الأسد، وبخاصة في مرحلتي السبعينيات والثمانينيات، وما بعدها من القرن الماضي، حيث الحرب الظلامية على سورية العربية، والاجتياح الصهيوني لبيروت، وسقوط لبنان بين فكي الوحش الإسرائيلي، واتفاق 17 أيار الذي تم إحباطه، وتخليص لبنان من سرطانه بجهود مشتركة سورية – فلسطينية مقاومة، انطلاقاً من وحدة المعركة والمصير في بلاد الشام بكل مكوناتها، وفي الدار العربية على اتساع رقعتها، كما أسجل إعجابي وتقديري لتواصل اللقاءات والحوارات النضالية بين السيد الرئيس بشار الأسد، والقادة الفلسطينيين، والتي جاءت هذه المذكرات مصدّقة، ومؤكدة القول: “إن سورية طوال تاريخها أنها مرهونة بتراثها وترابها ودماء أبطالها ورغيف خبزها، للقضية المركزية للأمة – فلسطين”. وقد استضافت مذكرات من الخيمة إلى الميدان مواقف، ومواقع نضالية، أفصحت عنها اللقاءات الهامة، وفي اللحظات الصعبة، بيّن السيد حسن نصر الله بطل المقاومة الوطنية اللبنانية التي انتقلت بهذه البلد العزيز من بلد يفتخر أنه (قوي بضعفه) إلى بلد قوي بشعبه وجيشه ومقاومته، وعلاقته النضالية المميزة مع سورية العربية.

إن مذكرات، بل ذكريات واهتمامات الدكتور كمال ناجي، تصح أن يكون لها أسماء عدة من أبرزها – كما اعتقد – أنها وقائع نضالية تؤرخ بالساعة واليوم أحداثاً عاشتها القضية الفلسطينية خلال الاجتياح الصهيوني لبيروت وخروج المقاومة من خندقها في الجنوب إلى تونس في (الشتات الثاني)، بعد شتاتها الأول من عمان في أيلول الأسود الذي كاد يجتث هذه المقاومة لولا احتضان سورية لها، بل تحالفها القومي والمصيري مع أبنائها الذين تضعهم في قلبها الرؤوم.

كما جاءت هذه المذكرات شاهداً وسجلاً للأحداث التي اكتوت بنارها القضية الفلسطينية، وكادت تخرج منها سليبة الأسلحة وكسيرة الأجنحة لولا الانتفاضة الباسلة في أواخر الثمانينيات، وما تلاها من منازلات مع العدو الصهيوني أكدت تعاسة وهزال نظريته التي طالما رددها: “إن الكبار يموتون والصغار ينسون”!! كما أنضجت هذه المذكرات الرؤية السديدة للفصيل المقاوم الذي ينتمي إليه الدكتور ناجي ورفاقه في فصائل المقاومة عموماً إزاء الخوارق والاختراقات السياسية التي شهدتها القضية من كامب ديفيد إلى مؤتمر مدريد، وصولاً إلى ثالثة الأثافي وادي عربة، وأوسلو، وصفقة القرن.. إلخ.

إن مذكرات (من الخيمة إلى الميدان) تعد تاريخاً سياسياً لقضية العرب المركزية التي هي جوهر القضايا القومية، والجسر الروحي بين الإنسان والسماء من جهة، وبين أبناء الأمة ووحدتهم العروبية من جهة أخرى.

ونؤكد التفاؤل الدائم مع الدكتور طلال ناجي بانتصار القضية الفلسطينية رغم طوفان التآمر من البيت الأبيض خلف البحار إلى البيوت السود الغارقة بالنفط وسط الديار، طالما في فلسطين طفل يتقن لغة المقاومة بالحجر والسكين والمقلاع لحظة ميلاده مردداً مع الشاعر القومي:

من قبل ألفٍ قال شيخ لابنه

من بعد ألفٍ يثأر المنظلم

وطن تسورّه الجماجم والدم

تتهدّم الدنيا ولا يتهدّم