حضـــــور
عبد الكريم النّاعم
-في الأزمات الشديدة، كالتي مرّت بها بلادنا، تتكشّف مفردات الأحداث فيها عن مفاجآت تصيب صاحب العقل الرّزين بالوجوم، فيتفقّد كلّ ما فيه، وكلّ ما حوله، وكلّ ما قرأه، ويتساءل بمرارة أين كان كلّ هذا؟!
الذي لاشكّ فيه أنّ في كلّ مدينة أو بلدة في سوريّة ثمّة الكثير الكثير من المرويّات، وكم أتمنّى ممّن لديه القدرة على الكتابة والتعبير، بوجدان صادق، أن يدوّن بعض ما مرّ وعايشه، أقول (بعض) لأنّ رصْد المجريات بدقائقها يحتاج لكاتب متمرّس، وبارع، في التعبير، فعسى أن يظلّ ذلك شاهداً للأجيال التي ستخرج من هذا الحريق الأعرابي الصهيوني، ولا يُغني عن ذلك تلك التسجيلات التي سُجّلت عبر الكاميرات، وهي بالغة الأهميّة، لأنّها بدلاً من الرواية تجعلك تعيش المشهد، وما أكثر المَشاهد، على أنّ هذا لا يُلغي دور السّرد الكتابي، فلكلّ أفقه الخاص.
-بقدر ما فاجأتنا الأحداث الدمويّة، وانكشف فيها الذين باعوا أنفسهم للشيطان، ولم يكن الشيطان غريبا عن الأرض العربيّة، وهذا يثير الأسى، كما يهيج القلق من القادمات التي بدأت تتوضّح مقدّمات توجّهاتها، وأهدافها الخبيثة،.. بقدر ما فاجأتنا، ورسّخ قناعاتنا للمزيد من التّشبّث بأرض الوطن، وبالأهداف القوميّة التي دفعنا من أجلها ما دفعنا، وبقدر ما أثار فينا من الاعتزاز الذين تصدّوا لتلك المؤامرة، على امتداد الجغرافيا السوريّة، فكان لديهم من الشجاعة ما زلزل أقدام الذين راهنوا على صمودنا لعدّة أسابيع، أو عدّة شهور، ولولا ذلك البذل، وتلك الجرأة في التصدّي لكانت أفواج الصهاينة المحتلّين وعملاؤهم من الأعراب يتجوّلون بَطرينَ، شامتين في شوارع دمشق.
-سأمرّ على بعض النّماذج التي تشكّل صدى للاقتداء، وللاهتداء:
طبيب في الحيّ الذي أسكن فيه،(ح . ش) ساهم في المعركة بطبّه، فهو منذ بداية إشعال الحريق الصهيوأعرابي لا يتقاضى أكثر من خمسمئة ليرة لأيّ مريض يُراجعه، رغم أنّ بعض الجشعين من الأطبّاء الذين فقدوا الكثير من إنسانيتهم، لا تقلّ المعاينة عندهم عن الخمسة آلاف ليرة، ولولا بعض الحسابات التي أضعها في الاعتبار لسمّيت كلّ أنموذج باسمه.
قد يقول قائل ولكنّ هؤلاء قلّة، والزهرة لا تشكّل ربيعا، وأنا أقول أنّ وجود هذه الحالات هو علامة على أنّ التّربة صالحة، فإذا توفّر المناخ اللازم، فسيكون لنا حقولا من الأزاهير.
-الصديق (م . و) لديه مشروعه الخاص المتعلّق بالبناء الاجتماعي عبر البناء الفردي المدروس بأسس وأساليب علميّة، لديه خبرة بالتّنمية البشريّة، وهو علم جديد على مجتمعنا إلاّ في حدود ضيّقة حتى الآن، أُكبِر فيه صلابته، وإصراره على أن يقدّم شيئا للمجتمع الذي هو منه، ولقد حاول الاتّصال بعدد ممّن توسّم فيهم أنّهم قد يكونون سنداً له، وكان كلّ مَن يستمع إليه وهو يفيض بشروحه يرى في طروحاته العمق، وشيئا من الدهشة، ورغم ذلك لم يجد من التّجاوب ما كان يعوّل عليه، ولقد قلت له في إحدى جلساتنا المتباعدة: “إنّي أغبطك على هذا الإصرار”، وفي كلّ مرّة يصرّ على أنْ لا مكان لليأس في قاموسه، وأنّ اللمسة الطيّبة الإنسانية توقظ في الآخرين إنسانيّتهم.
آخر نشاط له كان قبل حوالي شهرين، أعلن على صفحته في الفيسبوك أنّه سوف يقبل من المتبرّعين فائض ثيابهم، وسوف يمرّ لأخذها، أنا لا أعرف مقدار ما جمعه لتوزيعه على ذوي الحاجات، ولكنّني أعرف أنني تخلّصت من أعباء الثياب التي كنت أتساءل كيف أوزّعها، ولمن أعطيها، وكنتُ وأنا أكدّسها أتذكّر تلك المقولة التي يتبنّاها علم الطّاقة، والتي مفادها أنّ الأشياء الزّائدة التي تُحيط بنا تمتصّ من طاقاتنا الايجابيّة بحجم حضورها.
يا إلهي، كم نحن بحاجة لأنْ نتخفّف ممّا يشيع الكثافة، وربّما الغمّ، وخاصّة حين نشعر أنّنا ساهمنا في إشاعة الفرحة في بعض القلوب التي افتقدتْها في الظروف التي أحاقتْ بنا.. سلاما لكم أيّها العاملون على تحقيق إنسانيتكم من خلال العمل على ما ينفع النّاس.
aaalnaem@gmail.com