قصص مأساوية وراء حملة التطهير الأردوغانية
في الذكرى الثالثة لمحاولة الانقلاب التي جرت في تركيا في 15 تموز من عام 2016، والتي استغلها أردوغان لتصفية خصومه ومعارضيه، بدأت عشرات آلاف القصص الصادمة عن ضحايا حملة التطهير الأردوغانية تروى في تركيا؛ فحشود المقالين المتهمين بالقرب من غولن يضطرون الى تغيير مهنهم، والقبول بأجور أقل بكثير، مع العيش تحت ضغوط القضاء وتقييد السفر.
ثلاث سنوات مضت على محاولة الانقلاب، شهدت خلالها تركيا حالة تدهور أمني واقتصادي وسياسي غير مسبوقة، في ظل حملة القمع الهمجية التي أطلقها أردوغان بهدف تصفية خصومه والمعارضين لسياساته، فزج عشرات آلاف الأشخاص في السجون المظلمة، وفصل آلاف الموظفين في جميع القطاعات بحجة تورطهم في الانقلاب، وفرض قوانين جديدة تعزز قبضته على القضاء وهيئات الدولة كافة، ونشر ثقافة الخوف لدى كل من يحاول انتقاد سياساته، بملاحقة الصحفيين ووسائل الإعلام التي تجرأت على التحدث ضده.
كانت إليف معلّمة في مدرسة ثانوية في جنوب غرب تركيا عام 2016، لكنها أصبحت تعمل منذ سبعة أشهر في مركز للدروس الخصوصية في أنقرة، وتحديداً في التنظيف، بعد إقالتها في إطار عملية التطهير التي تلت المحاولة الانقلابية.
وإليف –وهو اسم مستعار بناء على طلبها- واحدة من حوالي 33 ألف مدرّس أقيلوا في إطار حملات التطهير، وتقول: “أثناء إعطاء الأساتذة الدروس، أحضّر الطعام وأنظّف الحمامات”.
بعد ثلاث سنوات على الانقلاب الفاشل تعاني إليف، على غرار عشرات الآلاف الآخرين، لتأمين لقمة عيشها بسبب عدم توافر وظيفة ثابتة، وتضيف: “عمري 37 عاماً، وأبدأ حياتي من الصفر”.
وكان وزير داخلية النظام التركي، سليمان صويلو، أقر قبل 3 أشهر باعتقال أكثر من نصف مليون شخص، فيما بلغ عدد السجناء 30947، بينما صدرت مذكرات اعتقال بحق 22 ألف شخص، مضيفاً: إنه حتى الآن تمّ فصل 38 ألفاً و578 من العاملين بوزارة الداخلية، وإبعاد 5 آلاف و679 آخرين عن مناصبهم، مشيراً إلى حبس جزء من المفصولين، من بينهم 11 ألف عنصر أمن، و4 آلاف و159 من قوات الدرك و348 من قوات خفر السواحل.
وأقيل أكثر من 150 ألف موظف في القطاع العام في إطار حال الطوارئ التي أُعلنت غداة الانقلاب وحملات طاولت المؤسسات العامة لـ”تطهيرها” من أنصار غولن.
كانت إليف عضواً في نقابة معروفة بقربها من شبكات غولن، وتصف نفسها بأنها “مسلمة يسارية”، وتعترف بأنها “مناصرة” لحركة غولن، لكنها تؤكّد أنها لم تكن يوماً “عضواً فاعلاً” فيها.
وإضافة إلى إقالتها، تمّت ملاحقتها قضائياً لـ”انتمائها إلى تنظيم إرهابي”. وأمضت عشرة أشهر تحت مراقبة قضائية قبل أن تتمّ تبرئتها عام 2018. وأقيل زوجها، الذي يعمل مدرّساً أيضاً، ثم اعتُقل لثمانية أشهر.
بعد إقصائها من التعليم العام، لم تتمكن إليف من العثور على عمل كمدرّسة، بما في ذلك في القطاع الخاص، لأن أصحاب العمل بدوا حذرين بشكل عام.
وعلى غرار إليف، أقيل عدد كبير من الأتراك من القطاع العام، وأُرغموا على تغيير مهنهم للعيش.
وتكثر الأمثال في هذا المجال: أكاديمي سابق تحوّل إلى عامل بناء، رئيسة سابقة لجمعية فتحت مقهى، وقاضية سابقة أصبحت بائعة شاي، وشرطي سابق بات حارس مبنى، ويؤكّد أحمد، وهو أستاذ جامعي سابق في الكيمياء، وتمّ تغيير اسمه أيضاً، أنه تقدّم لحوالي 1200 وظيفة ولم يتسن له سوى إجراء ما بين 30 و40 مقابلة، وبعدما رُفض طلبه في كل مرة، اضطر إلى بيع الخضر والفاكهة لبعض الوقت في زاوية شارع، على عربة كان يدفعها بنفسه.
ويروي: “عندما شرحت وضعي لأصحاب العمل، لم يقبلوني”.
هذا الرجل البالغ 44 عاماً وزوجته هما من بين ستة آلاف أستاذ جامعي أُقيلوا عبر مرسوم شكّل “صدمة” بالنسبة إليهما.
وتقول إليف: “الناس يعرفون جيداً أننا لم نقم بأي أمر سيئ، لكن الجميع يشعر بخوف شديد”، وتتابع: “حتى أنا لا أريد أن تنشروا اسمي لأنني أشعر بالخوف”، وتضيف إنه عندما أُطلق سراح زوجها “كان مضطرباً تماماً”. وتروي أنه لجأ إلى الشتائم والعنف، الأمر الذي أدى إلى إنهاء علاقتهما.
وتجد إليف نفسها وحدها في الاهتمام بأبنائها الثلاثة براتب لا يتجاوز ألف ليرة تركية (حوالي 175 دولاراً أميركياً) مقابل 4500 ليرة عندما كانت مدرّسة.
وللخروج من المأزق، اعتمدت إليف، التي توفي والداها، على شقيقتها الكبرى وشقيقة زوجها وعلى بعض الأصدقاء.
أما أحمد، فحظي من جهته بمساعدة أهله وعائلة زوجته فقط، ويقول: “منذ عشرين عاماً لدي رقم الهاتف نفسه، لكن بعض الأصدقاء وضعوا حظراً لرقمي على هواتفهم، لم يعد بإمكاني الاتصال بهم”، وعبّر عن أسفه لواقع أن جيرانه يديرون وجوههم عندما يلتقونه.
وكي تبيّض ملفها بالكامل، وتستعيد جواز سفرها المصادر، تنتظر إليف حالياً نتيجة الاستئناف الذي تقدّمت به للجنة مكلّفة درس طعون الأشخاص الذين أُقيلوا، إلا أن هذه اللجنة لا تكشف قراراتها، التي غالباً ما تكون سلبية، إلا بشكل بطيء جداً.
أحمد من جهته لا ينتظر شيئاً، لكنه يأمل أن تبرئه المحكمة ليتمكّن من مغادرة البلاد مع زوجته وطفليه.
وبحسب إحصاءات موثّقة فإن الأتراك يهاجرون بأعداد كبيرة، لتهاجر معهم أيضاً رؤوس الأموال والأدمغة؛ فخلال الثلاث سنوات الأخيرة لم يقتصر الهروب من تركيا على الطلاب والأكاديميين فقط، وإنما شمل أيضاً رجال الأعمال وآلاف الأثرياء، الذين يبيعون كل شيء، وينقلون عائلاتهم وأموالهم إلى الخارج.
ويقول المعهد التركي للإحصاء: إن عدد الاتراك المهاجرين من بلادهم سجّل في عام 2016 “178” ألفاً، وارتفع نحو 42 بالمئة إلى أكثر من ربع مليون تركي في عام 2017.
جنون العظمة لدى أردوغان وأطماعه السلطوية، التي لا تقف عند حد، أدخلت تركيا في أزمات دبلوماسية حادة مع دول كثيرة، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا، التي انتقدت مراراً حملات القمع والاعتقال التعسفية التي يشنها لقمع الأصوات المعارضة له، كما أدت سياساته القائمة على الاستبداد إلى تدهور الاقتصاد التركي ودخول البلاد في أزمة اقتصادية حادة مع تراجع الليرة التركية وسط مخاوف المستثمرين من حالة الاضطراب الأمني والسياسات القمعية التي فرضها.