ما بعد انتخابات اسطنبول !؟
د. سليم بركات
للمرة الأولى ومنذ ما يقارب ربع قرن يفقد حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان سيطرته على اسطنبول، كانت الخسارة فادحة، وكان الفارق بين مرشح حزب العدالة ومرشح المعارضة من حزب الشعب الجمهوري صادمة، كما كانت الهزيمة ثقيلة كونها فتحت الأبواب مشرعة للعديد من التساؤلات التي يتردد صداها على مستوى الشعب التركي وفي كل الأوساط، ولاسيما ما يتعلق منها بوحدة الحزب الحاكم، وبمستقبل أردوغان نفسه.
لقد عمّت الفرحة أوساط الشعب الجمهوري المعارض لسياسة أردوغان، وخرج أنصاره يجوبون الشوارع مبتهجين وهم يهتفون ويرددون عبارة (سيشمل التغيير كل شيء ليصبح نحو الأفضل بعد أن انتهت صلاحية حزب العدالة والتنمية) وبعد أن أعلن مرشح حزب المعارضة “إمام أوغلو” فوزه في هذه الانتخابات قائلاً: “إن هذه الانتخابات تعني فتح صفحة جديدة مع الشعب التركي كما تشكل بداية لتركيا جديدة”. وبالمقابل خيّم الحزن على مقرات حزب العدالة والتنمية، وازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بالتغريدات من قبل أعضاء حزب العدالة والتنمية، والتي قدمت نقداً لاذعاً لسياسة أردوغان وهي تقول: (خسرنا اسطنبول لأننا خسرنا الأخلاق، وأبطلنا النقد الذاتي الذي لابد منه كي تطوى صفحة الماضي من أجل المستقبل) ونقلت وكالات الأنباء أن حالة من الغليان سادت مقر حزب العدالة في اسطنبول وهي تطالب بإقالة الهيئة الرئاسية للحزب، كما نقلت هذه الوسائل ما مضمونه أن ما جرى في اسطنبول ليس سوى صورة مصغرة لما سيجري في تركيا مستقبلاً، نقلت وهي تؤكد أن الخطر المحدق بحزب العدالة هو اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن ما جرى في انتخابات اسطنبول يعدّ رسالة تأديبية قوية لأردوغان بعد أن أصر على إعادة الانتخابات. إعادة سبقتها حملة انتخابية سادها الكثير من التخبط والارتداد عن الكثير من الشعارات والمواقف السابقة، ولاسيما فيما يخص مغازلة الأكراد، والإدارة السيئة لملف الانتخابات، والتي تحولت بشكل أو بآخر إلى استفتاء على إدارة الحزبين الحاكم والمعارض، ودليل ذلك الفجوة الكبيرة من حيث تعداد الأصوات بين الانتخابات الأولى والانتخابات الثانية، والتي تراوحت بين 13 ألف صوت في الأولى إلى 800 ألف صوت في الثانية، حصل عليها مرشح المعارضة مع أن المدة التي تفصل بين المرحلتين الانتخابيتين لا تتجاوز الثلاثة أشهر هذا من جهة، ومن جهة أخرى اعتبرت النتيجة الانتخابية ليست بمثابة تصويت على شعبية حزب العدالة فحسب، وإنما استفتاء على مستقبل أردوغان السياسي، إنها البداية لمسارات سياسية متضاربة ومتعاكسة على الساحة السياسية التركية تتقاطع في نقطة واحدة، وهي أن المعارضة التركية لن تسمح لأردوغان وحزبه التفرد بالسلطة بعد اليوم.
على أثر هذه الانتخابات تناقلت وسائل الإعلام ومنها تركيا أنباءً عن حصول انقسامات في حزب العدالة والتنمية قد تؤدي إلى تشكيل أحزاب جديدة منشقة عن هذا الحزب، انقسامات طفت على السطح ومنها أن حزباً سياسياً سيتشكل برئاسة “علي بابا جان” نائب رئيس الوزراء التركي السابق، والذي التقى أردوغان وتحدث معه بصراحة عن المشاكل التي يعاني منها الحزب الحاكم في تركيا، ومنها تشكيل حزب سياسي آخر بقيادة الرئيس التركي “عبد الله غل” و”داؤود أوغلو” وزير الخارجية السابق، و”محمد شمشم” وغيرهم ممن يرغبون تشكيل حزب جديد، أو أكثر من حزب، وهذا بدوره يؤكد وجود شرائح داخل حزب العدالة والتنمية غير راضية عن سياسة أردوغان، ولا عن التعينات التي تمارس من قبله، والتي تعد بعيدة كل البعد عن معايير اللياقة والكفاءة من وجهة نظر هؤلاء.
لقد كشفت انتخابات اسطنبول عن سوء سياسة أردوغان ورفضها، كما كشفت عن الوضع الاقتصادي الرديء الذي تمر به تركيا، والذي أدى إلى انهيار قيمة الليرة التركية، وارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير، كما مثلت هذه الانتخابات إحدى أكبر الانتكاسات التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية الإسلاموي منذ وصوله إلى السلطة في تركيا وحتى يومنا هذا، وبهذه الانتكاسة يكون حزب أردوغان قد تراجع في أهم المدن التركية وهي اسطنبول بعد أن سبق وتراجع في العاصمة أنقرة التي سيطر عليها طيلة ربع قرن.
تشير كافة المعلومات إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لن يتمكن بعد هذه الهزيمة الانتخابية من إحكام قبضته على زمام الأمور في تركيا، ولاسيما في هذا الوقت الذي ينهار فيه الاقتصاد التركي بين يديه، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن عدو أردوغان اليوم هو الاقتصاد المتجه نحو الانهيار، وليس مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض “أكرم إمام أوغلو”، نقول ذلك ونحن نعتقد أن ما حققه هذا الرجل يعد إنجازاً لافتاً قد يدفع بأردوغان إلى ترميم علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وخفضها مع روسيا، ودليل ذلك الاستمرار من قبل المعارضة التركية في تفعيل ما جرى في اسطنبول على مستوى تركيا ومن خلال انتخابات ديمقراطية قد تنتقل بالشعب التركي من دولة الحزب الواحد إلى دولة تعدد الأحزاب، وما زاد الطين بلّة تلك الحرب التجارية التي خاضها أردوغان مع ترامب وأدّت إلى انهيار العملة التركية، كما أدّت إلى تأجيج التضخم والإسهام في انهيار الاقتصاد التركي، الأمر الذي جعل من أردوغان في حاجة ماسّة لإعادة النظر في سياسته الداخلية برمتها، أما بالنسبة للسياسة الخارجية التركية في الوطن العربي فقد لا يطرأ عليها تغيير، وإن كانت صورة أردوغان قد اهتزت، وربما أدى ذلك وعلى المدى المنظور إلى إضعاف حزب العدالة على المستوى العربي، إذا ما أثبتت المعارضة الداخلية التركية جدارتها السياسية من خلال التعاون مع الناخب التركي، وكسبت ثقته، الأمر الذي سيمكنها من تحقيق شعبية أكبر على حساب أردوغان وحزبه، وهذا بدوره يمهد إلى مشهد سياسي جديد على صعيد العلاقات التركية العربية.
إن خسارة أردوغان لاسطنبول تعد بداية لانفلات خطوط اللعبة التي يمارسها ليس على مستوى الداخل التركي فقط، وإنما على مستوى المنطقة والعالم أيضاً، لتكون البداية لفصل جديد في السياسة التركية على مستوى المنطقة والعالم، وفي هذه الحالة يصدق القول الذي كان يردده أردوغان باستمرار:”من يفوز باسطنبول يفوز بتركيا”. وهذا يعني أن نجمه السياسي قد أصبح في أفول بعد كارثة الهزيمة التي تلقاها في اسطنبول.
بقي أن نقول: إن تركيا مقبلة على تحولات هامة، قد تكون مرتبطة بتراجع حمولات دينية، وعرقية، ولاسيما على صعيد الوضع الداخلي، تحولات تكشف حقيقة سياسة أردوغان الاستبدادية، وكيف لا وأردوغان يقول في الديمقراطية:”مثلها مثل القطار فإنك تترك القطار عندما تصل إلى مبتغاك” ربما يعتقد البعض أن قطار أردوغان مازال له العديد من المحطات القادمة، وربما يعتقد البعض الآخر أن قطاره قد تحطم بالسرعة البطيئة، لكننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن انتخابات اسطنبول هي لحظة انهيار قطار أردوغان، وسيتضح من خلال هذا الانهيار أن أردوغان الذي يعد نفسه زعيماً سياسياً كبيراً وخليفة عثمانياً جديداً، ليس أكثر من خادم للصهاينة، وليس أكثر من منفذ لسياستهم في المنطقة.