الادعاء..!
حسن حميد
لست متأكداً، أنه كتب شيئاً ذا بال، أو أنه أصدر كتاباً ذا بال أيضاً، مع أنه كان لا يترك اجتماعاً ثقافياً إلا ويحضره، ولا ندوة إلا وكان له أسئلة محفوظة يطرحها، ولا معرضاً فنياً إلا ويكون في صدارة الحضور، ولا توقيع كتاب إلا وقد صلب نفسه إلى جوار الأديب الذي يوقع كتابه. كان شغوفاً بأن يرى نفسه في الصور، وشغوفاً بأن يحدث الآخرين عن الأنشطة الثقافية والفنية، وكل ذلك كنّا نحتمله ونسوغه بعد أن عرفناه سنوات طوالاً وهو يتحدث عن مشاريع كتابية في القصة القصيرة، والرواية، والشعر، والمسرحية، وأدب الأطفال، والنقد الأدبي، لكن ما من مشروع من هذه المشاريع رأى الضوء. كان يقول لنا، وبالصوت العالي، أنه أودع أربع مخطوطات أنجزها لدى جهات عدة، وهو ينتظر أمر البت بنشرها، وحين تمرّ الأيام لا نسمع منه إلا كلاماً يتناول فيه /أعداء النجاح/ الذين يقفون عقبة في وجه إبداعه، وأن الجهات العامة والخاصة ذات هوى لأنها ترفض أعماله المخطوطة وتحيدها، ولولا هذا الهوى لكان له اليوم عشرات الكتب، لكن آفة الكراهية تظلم إبداعاته. وكنا نهز رؤوسنا ونحن نستمع إليه، ونظن أن ما يقوله صحيحاً، إلى أن وقعت الواقعة فكشفت حال صديقنا، وبيّنت أنه من أهل التنطع والادعاء؛ حدث ذلك عندما قال أمامنا جميعاً، وبيننا صديق عارف بالأدب الإسباني، فقد درسه في إحدى الجامعات الأسبانية، ونال فيه شهادة الدكتوراه، وهو اسم معروف في مجال الترجمة، إنه يعكف على كتابة دراسة مهمة جداً عن كاتب أسباني اسمه رافائيل البرتي، وهو روائي مهم، وقاص مهم، وكاتب سيرة. فقال صديقنا العارف بالآداب الإسبانية هذا الرجل شاعر، ولم يعرف بأنه كاتب رواية أو قصة قصيرة، قال وهو يضحك: هذه هي المفاجأة، يظن المثقفون أنه شاعر فحسب، لكن شهرته الشعرية لا تساوي شيئاً أمام أهميته في الكتابة الروائية والقصصية، وأضاف: هذه هي علة الترجمة التي تقدم لك أعلام الأدب في جانب أحادي، وراح يعدد لنا أسماء روايات كتبها رافائيل البرتي، ومنها: الجريمة والعقاب، وابنة الضابط، ومرتفعات وذرينغ، واللون القرمزي.. لحظتئذٍ احتبس الدمع في مآقينا، وكدنا نبكي بدلاً من الانفجار بالضحك، وإنقاذا للموقف، قال صديقنا العارف بالآداب الإسبانية، وهل تطرقت إلى صداقته المهمة والعجيبة مع (كلباراخ) وكيف أنقذه من الغرق حين رمى نفسه من فوق جسر في مايوركا؟! قال طبعاً.. طبعاً لا يمكن تجاهل صداقتهما، فـ (كلباراخ) حماه ذات ليلة من أفراد عصابة بينما كانا يسهران في نادي ليلي!
أحدنا، وقد ضاق ذرعاً بالحديث، سأل صديقنا العارف بالآداب الإسبانية همساً: ومن هذا.. (كلباراخ) أهو أديب، شاعر! قال لا إنه لاعب في فريق ريال مدريد! عندئذٍ كان العارف بـ رافائيل ألبرتي الروائي والقاص، يتحدث بشغف عن (كلباراخ)، وقال إنه لا يقل أهمية وإبداعاً عن رافائيل ألبرتي!
والحق أن صديقنا المحب للظهور، المصاب بلوثة الادعاء كان في جلسة، سابقة على جلستنا، مع نفر من الأدباء، وقد أراد أحدهم أن يورطه أكثر في جهله الثقافي والأدبي، فقال لأصدقائه إنه يقرأ، ومنذ شهور، روايات (رافائيل ألبرتي) وقد أدهشته روايته (الجريمة والعقاب) لأنها رواية عشق ما بين اثنين، انتهت بعد مكابدات عاطفية عظيمة إلى أن يتجرّع العاشقان السم انتقاماً من التقاليد والعادات الصارمة، وأدهشته أكثر رواية (ابنة الضابط) التي دخلت إلى الكلية الحربية، وعادت، بعد سنوات الإعداد، لتقود الكتائب التي كان والدها الضابط يقودها، وقد استشهدت مثل والدها، وأقيم لها نصب تذكاري.
يومذاك، عمّنا الحزن لأن صاحبنا فتكت به آفة الادعاء، فهو يدعي كل شيء، ويتبنى كل ما يقال وينسبه إلى نفسه، وحين رحل قلنا رحل الادعاء، لكن للأسف، وبعد المعايشة، وجدنا الادعاء بيننا يجول ويصول عبر فرسانه المتكاثرين كالفطور!
Hasanhamid55@yahoo.com