الحقبة السلتية في التاريخ العربي
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
تقتبس السيدة موري هوب عن مصدر بعنوان “مسالمة اللود” نصّاً عن أصل السلت يقول: “مواطنون من قطر في آسيا، ومن إقليم القرافيص Grafis، شعب قيل إنه كان ماهراً، ولكن المنطقة غير معروفة تلك التي كانت أماً لتلك الذرية”. بالبحث عن منطقة القرافيص المجهولة هذه على خريطة آسيا، تبيّن لنا التالي:
هناك جبل اسمه قرافيص يقع في منطقة رام الله بفلسطين. ومن هذا الجبل يبدأ أحد روافد وادي الكلت. ويتشكّل وادي الكلت من اجتماع واديين هما وادي السوينيت ووادي فارة. وكلاهما يجمع سيول المرتفعات الجبلية الواقعة بين مدينتي القدس والبيرة ومياه ينابيعها. وتبدأ المجاري العليا لوادي السوينيت من ارتفاع 830م عن سطح البحر شمال شرق وشرق مدينة البيرة، ومن السفوح الشرقية لجبل قرافيص 894م، ويعرف بوادي شيبان الذي يتلقى مياه وادي العين القادمة من الظاهر الشرقي للبيرة ومياه وادي النطوف، وإليه تنسب الحضارة النطوفية في بلاد الشام، الواقع شرقي مطار القدس حيث يعرف بوادي السوينيت بعد أن يرفده وادٍ شمالي قادم من منطقة دير دبوان. ويتجه وادي السوينيت نحو الجنوب الشرقي شاقاً طريقه في مناطق جبلية ذات صخور قاسية. وبعد أن يقطع مسافة 23 كم عن جبل قرافيص يلتقي بوادي فارة عند ارتفاع 125م عن سطح البحر. أما وادي فارة فتتشكّل بداياته شمالي مدينة القدس بالقرب من قرية شعفاط على ارتفاع حوالي 750م، ومنها يتجه نحو الشمال الشرقي بالقرب من قرية عناتا ليتخذ بعدها محوراً شرقياً- غربياً عاماً تكثر فيه التعرجات والأكواع المتعمّقة ضمن الصخور القاسية على شكل خوانق وفجوج إلى أن يلتقي بوادي السوينيت غربي عين الفوار. ويكون وادي فارة قد قطع 13 كم بدءاً من شعفاط. ويستمر وادي الكلت ضمن التضاريس التلية المحدّدة للسفوح الشرقية لجبال القدس لينتهي في سهل الغور، ومنه في نهر الأردن، عند نقطة تقع شمالي مصبّه في البحر الميت بمسافة 6.5 كم، خط مستقيم، جنوبي موضع المغطس. وهكذا يكون قد قطع 47 كم بين جبل قرافيص ومصبه.
وتنتشر على جوانب وادي الكلت وفي حوضه آثار قديمة ومغاور وكتابات يونانية وأقنية وأنفاق وبقايا جسور وطواحين وأديرة ورسوم وطرق مرصوفة قديمة تدلّ كلها على إعمار سابق قديم لحوض وادي الكلت.
إن أسماء المعالم الجغرافية لحوض وادي الكلت تؤكد أننا أمام موطن سلتي بامتياز. فاسم البيرة Al-bera، وهي اليوم مدينة معمورة، يذكرنا باسم القبيلة السلتية الكبيرة سلتي بيري، وربما يذكرنا أيضاً باسم الإلهة بيري سنتيا، واسم القدس كيلة يذكرنا باسم الإله الأعلى الخفي كيلي/ سيلي Celi. وهي تعني بذلك “مدينة الله” مجازاً، وليس الخفية حرفياً. ولعل اسم السلت/ الكلت مشتق من المصدر نفسه.
وتسمية وادي السوينيت هي سلتية قطعاً، وإن كانت هناك احتمالات متعدّدة حول دلالتها في اللغة السلتية حصراً. منها Su-wano بمعنى يثقب بسهولة، ربما لأنه يشق طريقه في مناطق جبلية ذات صخور قاسية، و Su-weno بمعنى سعيد، أو Swen بمعنى يحدث ضجة. وهناك أيضاً كلمة Swent-e بمعنى يكون قادراً، ومهما كانت الدلالة المقصودة من بين هذه الدلالات فهي سلتية حتماً.
وربما اعتقد البعض أن تسمية وادي فارة منسوبة إلى الفأر. لكن ما هو واضح أنها من الكلمة السلتية فار far بمعنى يبحث. وهو ما ينطبق على وصف وادي فارة المتعرج، مثلما ينطبق على الفأر أيضاً. وما زالت العامية الفلسطينية تحتفظ بكلمة فرّ بمعنى راح يدور ويتجول ويبحث عن شيء ما تماماً كالدلالة السلتية للكلمة.
وقد ورد اسم دير د- بوان. ويرجح أن اسمها مشتق من اسم الإلهة السلتية Boand أو Boann. كما ورد ذكر قرية عناتا، وهي تذكرنا بالإلهة السلتية عناة أو Aine.
وعوداً إلى اسم قرافيص، تبيّن أن سكان منطقة القدس يطلقون على المزارع المهيّأة على سفوح الجبال إلى الشمال من القدس وفق نظام السلسلة ،terraicing، اسم قرافيص. ولا تزال هذه التسمية سارية حتى الآن. ويطلق على الظاهرة نفسها في لبنان مثلاً اسم جَلّ أو جلّول.
وعدا عن قرافيص فلسطين توجد قرية قرب بانياس على الساحل السوري تحمل اسم قرفاص، كما توجد قرية أخرى تحمل اسم قرافيص قرب جبلة في محافظة اللاذقية. وهناك منطقة زراعية خصبة تقع بين مدينتي تدمر، بالميرا، وحمص وسط سورية وتحمل اسم قرابيص.
وهكذا يتضح معنا أن قرافيص التي أشارت إليها موري هوب إنما توجد في بلاد الشام، وفي مواقع متعدّدة ومتباعدة من بلاد الشام. وإذا نحن توقفنا عند الدلالة اللغوية لاسم قرافيص فماذا نجد؟.
إن كلمة ura أو ugra بالسلتية تعني أرض، بينما كلمة فيس fes تعني ينتج. فتكون الدلالة المادية المباشرة للاسم هي الأرض المنتجة. ولكننا نعرف أن كلمة فيس هذه ترد ضمن أسماء ملوك الهكسوس، مثل أبي فيس، وأيضاً ضمن أسماء فراعنة الأسرة الـ18 في مصر، مثل أمنوفيس. وهي في أسماء الأعلام تدلّ على الرضى والبركة والسلام. وهذا يجعلنا نرجح أن الاسم قرافيص يتجاوز دلالة “الأرض المنتجة” إلى معنى “البركة” أو “المباركة” أي “الأرض الأكثر إنتاجاً” أو “الأرض المباركة”. وهذه هي التسمية التي يطلقها القرآن الكريم على بلاد الشام وخاصة فلسطين. ولعلّ هذه الدلالة بالذات هي التي جعلت السلت يحتفظون باسم قرافيص بالذات على أنه اسم وطنهم القديم، فهو الأهم من الزاوية الدينية بالنسبة لهم لكونه يعني أن وطنهم القديم مبارك.
كان لا بد لنا من الولوج إلى هذا البحث من مدخل قرافيص المعترف بأنها موطن السلت الآسيوي القديم المجهول، وإن كان من الواضح أنه لا توجد أدنى مبررات جدية لبقاء هذا الموقع مجهولاً حتى الآن. فاسم وادي الكلت يعلن عن هويته، واسم جبل قرافيص يؤكد على هذه الهوية. لكن هذا المسرح لا يمثّل في الواقع غير مساحة ضئيلة للغاية من المساحة الجغرافية التي شغلتها الحقبة السلتية في التاريخ العربي، وهو ما تبيّن عبر سنوات طويلة من البحث والتحرّي على قاعدة الدراسة الميثولوجية واللغوية والجغرافية التاريخية، حيث تمّ التوصل إلى نتائج في غاية الأهمية. وحيث إن هذه الدراسات استلزمت موسوعة كبيرة، فإننا سنكتفي هنا بتلخيص بعض النتائج التي توصلنا إليها، والتي تهمّ كل باحث مختص في الدراسات السلتية، سواء من زاوية التاريخ أو الميثولوجيا أو اللغة، مثلما تخصّ أي باحث مهتم بالتاريخ العربي.
تقود المؤشرات إلى الاستنتاج بأن السلت هم من عرفوا في “الكتاب المقدس” باسم العناقيين الرفائيين وأسماء أخرى، وقد عرفوا في النصوص الكنعانية من أوغاريت باسم الرفائيم. وأما في نصوص المؤرخين العرب القدامى الذين ظهروا في صدر الإسلام فهم العماليق، أو هم من “العرب البائدة” الذين درجوا ولم يعد لهم أثر. ومن الغريب أن دارسي نصوص أوغاريت انقسموا بين تفسير كلمة الرفائيم بأنها تعني الأخيلة والأشباح أو تعني الأمراء مما جعل هذه النصوص غامضة، ومعزولة عن أي فهم لمعطيات التاريخ القديم.
يرى البعض أن اسم السلت/ الكلت مشتق من جذر كلمة تعني بطل. ومع أن هذا الاستنتاج يمكن تأكيده من خلال اللغة العربية بسهولة، إلا أننا نعتقد بأن تسمية الإله الأعلى الخفي سيلي/كيلي، وتسمية القدس كيلة، من شأنه على أساس قاعدة الاشتقاق اللغوي في العربية أن يجعل كلمة الكلت/ السلت تعني شعب الإله الخفي، وهو ما يرجح أن التسمية كانت دينية في البداية ثم شاعت، وليست عرقية. ولعلّ هذا ما يفسّر احتفاظ الشعوب التي تصنّف الآن على أنها كلتية بأسمائها الأصلية. ولعلّ من الأمور التي تستدعي التفكير والتمعن أن نجد المواقع التي تحمل اسم السلت/ الكلت في بلادنا هي التالية:
1– وادي الكلت: إلى الشمال من القدس {كيلة} وإلى الجنوب من شيلوه/ سيلون التي ربما كانت تستمد اسمها من المصدر ذاته ولكن بلهجة أخرى.
2– تل السلتة: في مدينة الخليل/ حبرون. واسمها يذكرنا بالقبيلة السلتية المسمّاة Heberni، حيث يوجد مقام سيدنا إبراهيم الخليل.
3– كفر سلت: قرية في الضفة الغربية.
4– سليتة: من قرى نابلس وهي شكيم الموصوفة بالكنعانية. واسمها من الكلمة السلتية Skeima بمعنى جمال، مما يرجح أنها مدينة سلتية.
5– وادي كيلي: هو اسم وادي البقاع في لبنان.
6– كيلة: أحد أسماء مدينة القدس كما ورد في المدونات التاريخية، واسم خربة تقع جنوب غرب القدس وتحمل هذا الاسم حتى الآن.
إن الملاحظة التي لا بد من إيرادها في هذا السياق هي أن اسم سيلي/ كيلي يرد موازياً له في أوغاريت اسم حيلي/ خيلي. وهذا يعني أن هناك أربع صيغ لغوية لاسم إله واحد عرفه سكان بلاد الشام. لكن الأمر لا يقف في الواقع عند بلاد الشام. فهذا محمد فضل الجثام يقول لنا في كتابه “الحضور اليماني في تاريخ الشرق الأدنى القديم” إن خيلة من كبريات قرى يافع، وتعرف باسم مدينة خيلة لمكانتها الدينية، فهي مقدّسة حُرّم فيها القتال وطلب الثأر ومن دخلها كان آمناً. وهي تقع في منطقة العناق، وتقع في قلب وادي دان. وهي تسمية جغرافية للمنطقة تذكرنا بالتوثا دو دانان السلت، مثلما تذكرنا بالعناقيين.
إن ما يجب الانتباه إليه هو أن تسمية السلت في الأساس لم تكن تطلق على جميع القبائل التي اصطلح الأوروبيون أخيراً على وصفها بالسلتية لكونها تشترك في لغة واحدة. ولقد أمكن تحديد الأماكن التي أقامت فيها الشعوب السلتية بأسمائها التي تُعرف بها حتى اليوم في أوروبا على خريطة المنطقة العربية، حيث احتفظت الكثير من هذه المواقع بهذه الأسماء، أو وردت معلومات تاريخية حول وجودها في الماضي، بحيث بات من الممكن إلى حدّ كبير، رسم خريطة لانتشار القبائل أو الشعوب السلتية في المنطقة العربية. وقد شملت هذه المعطيات: التوثا دو دانان–الهبيرني- البيري– البريتون– الهلفيت– البلجي– الإيكوسي– البكت– السكوت– الجايليك– الغال– الكمري– عليد. وقد شمل هذا الانتشار جزءاً واسعاً من الجزيرة العربية إضافة إلى سورية الكبرى. فإذا أخذنا الغال مثلاً، فيمكن تعقب أماكن تواجدهم على خريطة بلادنا كما يلي:
1– وادي الغيل: إلى الجنوب الشرقي من القنفذة في عسير.
2– غلية: يذكر إبنرستة في “الأعلاق النفيسة” أن يثرب كانت في الجاهلية تُدعى غلية نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها.
3– الغال ووادي الغال: في منطقة مدين الجنوبية.
4– الغال ووادي الغال: في جبال الشراة جنوب شرقي الأردن.
5- خربة غلانية: موقع أثري في خراج قرية كفر قرع جنوب شرق حيفا.
6– غالية وغويلية: موضعان لم يعد ممكناً التعرف عليهما، يرد ذكرهما في رحلة ابن جبير، عند حديثه عن مسجد الأقدام/ القدم من أحياء دمشق، فيقول إنه على مقدار ميلين من البلد مما يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع وهو بين غالية وغويلية كما ورد في الأثر، وهما موضعان.
إن ما يجب أن ننتبه إليه، هو أن كلمة الغال تعني الغالين أي الأعزاء، تماماً كما هو مدلولها الشائع باللغة العربية. فالغال هم الغالون وليس الغيلان ولا الغلاة. وهذا ما جعلنا نستبعد ذكر المواقع الغولية وما أكثرها.
ما ينطبق على الأماكن الأصلية لتواجد السلت والغال على خريطة الوطن القديم ينطبق أيضاً على الشعوب والقبائل الأخرى التي تشاركهم اللغة. والواقع أنه من خلال دراسة أكثر من 300 من أبطال وآلهة الميثولوجيا السلتية، أمكن توطين الأغلبية الساحقة من هؤلاء في المنطقة العربية، مما يعني أن أساطيرهم إنما تعود إلى الوطن القديم. ولا يقتصر الأمر على ملاحظة إطلاق اسم الإله أو البطل ذكراً أو أنثى على مواقع جغرافية في الوطن العربي، وإنما نواجه حالة أكثر عمقاً، حيث إنه من أسماء بعض الآلهة والأبطال اشتقت تسميات صناعات وحرف عديدة، وغالباً ما تجيء هذه التسميات مستندة إلى جذور مشتركة بين اللغة العربية واللغات الأوروبية. وهذا يرجح أصلاً سلتياً مشتركاً، ويؤكد على أن التأثير السلتي في الاتجاهين كان أكبر بكثير مما هو متصور حتى الآن. والواقع أن هذه التسميات تعيدنا إلى أصول الأشياء، مما يعني أن الحضارة السلتية هي الامتداد الطبيعي لحضارة العصر الحجري الحديث في جنوب غربي آسيا.
إن ما أوردناه في هذا البحث ليس سوى أمثلة لتعقب النماذج السلتية في تاريخنا القديم. وهي نماذج كثيرة، وتعود لفترات زمنية متعدّدة، وتحتاج إلى البحث والدراسة بدلاً من الارتهان لتلك العبارة القائلة بأن العرب البائدة درجوا ولم يعد لهم أثر. فالأصح أنهم تغربوا، وأنهم عاشوا في غربتهم تجارب عديدة، وتطورت خلال هذه الغربة لغتهم، وبالتالي باتوا يشكلون شعوباً قائمة بذاتها في العالم الذي انتهوا إليه. لكن ما اكتسبوه في وطنهم القديم من الخبرات حملوه معهم، وهذا ما يساعدنا على استرجاعه ووصل حلقات التاريخ القديم بدلاً من الانقطاع الذي يعاني منه هذا التاريخ.