أخبارصحيفة البعث

مع ذاكرة ثورة 23 تموز نظرة حقيقية لواقع الحال المعاصر وأملٌ في التغيير

 

سبعةٌ وستونَ عاماً منذ انطلاقة الثورة البيضاء التي لم ترق فيها قطرةُ دمٍ واحدة والتي كانت رداً على الهزيمة الكبرى التي لطخت تاريخ الأمة العربية والإسلامية في واقعها المعاصر، لقد كان الظلمُ والجور وسياسةُ الإفقار التي تعرضت لها طبقاتُ الأمة بمختلفِ انتماءاتها في مصر الكنانة المحرك الأساس الذي فجر طاقات الضباط الأحرار في فجر الثالث والعشرين من شهر تموز 1952 انتصاراً لفلسطين ورداً على الخيانات التي وصمت جبين الحكام العرب في غالبيتهم من خلال صفقات الأسلحة الفاسدة في مصر وماكووووو أوامر في العراق، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه سورية قد بدأت تلملم جراحها وتعلي بنيانها بعد جلاء المستعمر الفرنسي عن أراضيها.

نعم في هذا التاريخ انطلقت جحافل الجيش المصري في الحادية عشرة ليلاً لتكسر الخنوع ولتعلي راية التحرر من الظلم والفساد والعبودية.

سبعةٌ وستون عاماً مرت على الثورة الخالدة والوحيدة التي أرست قواعد التغيير الإجتماعي والوطني والإسلامي، وأفرزت مفهوم الدائرة العربية والدائرة الإسلامية، والدائرة العالمية، لقد انتقلت الثورةُ الناصرية من إنجاز إلى إنجاز ومن انتصارٍ إلى انتصار حيث قامت أولاً بكسرِ احتكار السلاح بتوجهها إلى الشرق، وتابعت بإقامة المصانع الكبرى للحديد والصلب، لتنتقل إلى تأميم قناة السويس التي بنيت بعرق ودماء الشعب المصري، لكي تتوج تلك الانتصارات بانتصارها الساحق عام 1956 على العدوان الثلاثي بمكوناته العتيقة التي تمثلت ببريطانيا وفرنسا وربيبتهما إسرائيل، لقد كان انتصار الثورة المصرية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الشرارة التي أشعلت وأججت رياح الثورة في كل العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وانطلقت الثورات العربية في كلِ مكان من أراضي الأمة العربية في الجرائر وتونس وجنوب اليمن وتبعتها ليبيا والعراق إلى آخرِ القائمة، لقد انطلقت جماهير الأمة في كل مكان تأييداً وانتصاراً للقيادة الرائدة التي أعلنت قيام دولة الحق ونادت بالمقولة الخالدة إن على الإستعمار أن يحملَ عصاهُ ويرحل، لن تكفي الصفحات لتخليدِ هذه الذكرى، وهذه الأمةُ الآن باتت تعاني ما تعاني من غدرِ الأصدقاء قبل الأعداء، لاسيما وقد استبيحت أراضيها ونهبت ثرواتها وعم الفساد والخيبة في كلِ مكان.

مما لا شك فيه أن هذه المنطقة الجغرافية وبكل مكوناتها البشرية على مر التاريخ كانت وما زالت مستهدفة من أعدائها وخصوصاً في مرحلتها الحاضرة وهذا هوحال الأمة الآن بعد أن  أخطأت في خياراتها ومشت  في مسيرةٍ طويلة وشاقة قاربت القرن من الزمن أوأكثر جربت فيها العديد من الأساليب والنظريات وحانَ الآن الوقت لإعادة النظر وقراءة التاريخ من جديد لاسيما وأن الخطر باتَ على الأبواب وادلهم الخطب دونَ تمييزٍ بين الحاكمِ والمحكوم فالأمة الآن بكافةِ مكوناتها  حكاماً ومحكومينَ في مركبٍ واحد لاسيما وأن أمريكا ومعها القوى العالمية الأخرى والقوى الإقليمية المحيطة ورأس الحربة إسرائيل  جميعها قد حزمت أمرها على التصدي لشعوب المنطقة التي ما زالت تستعصي على الإرادات العالمية والإقليمية لتمنع قيامتها  واستعادتها لزمام المبادرة ووأدها في مستنقعات الفرقة والتنافر، جميع هذه القوى وبما يتلائم مع مصالحها  قررت إعادة رسمِ المنطقةِ بما يناسبها وما يخدم   الكيانِ الصهيوني الدخيلِ وفي مخططاتها تقسيم هذه الأمة إلى كانتوناتٍ صغيرة تكون الغلبة فيها للكيان الأمضى  سلاحاً الكيانُ الصهيوني.

تبدأ المشكلة من أوائل القرن العشرين عندما غُرر بشعوب المنطقة الشرق أوسطية بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم  وأداروا ظهورهم للحضارة العربية الإسلامية التي كانت المحرك والدافع الحقيقي لتقدم الأمة العربية  التي استطاعت وفي فترة قصيرة جداً في عمر الزمن أن تقيم الإمبراطورية العربية الإسلامية  من الشواطئ الفرنسية إلى أقاصي الشرق الأقصى في الهند وإندونيسيا وماليزيا وفي أقاصي الشمال في جمهوريات الاتحاد الروسي عبر بلاد فارس والباكستان وأفغانستان  واستمر هذا الانتشار عبر أوروبا ليشمل منطقة البلقان حيث ارتفع صوت التوحيد في وسط أوروبا وكاد  البحر الأبيض المتوسط  أن يتحولَ إلى بحيرةٍ عربية، وتحطمت أسطورة الدولة الرومانية لتحل محلها الدولة العربية الإسلامية  التي تميزت بعدلها وسماحتها .

لقد أصبح من الواضح بدونِ لبس أن من يحكم منطقتنا الشرق أوسطية يمكنه التحكم بالعالم من أقصاه إلى أقصاه، وكان لا بد من تفتيت هذه الشعوب التي التقت حول ديانات التوحيد.

في ذات الوقت الذي استمرت فيه المحاولات التجزيئية من خلال خلق النعرات الطائفية والإثنية والقومية، ومن المؤسف والمؤلم أن البعض من مكونات شعوب المنطقة استطاعت أن تمتص هذه الحالة المرضية لا بل غذتها وووسعتها وكان لغالبية الحكام  الدور الكبير في إذكاء هذه النعرات حفاظاً على مكتسباتهم التي تحصلت لهم على مرِ الزمن.

إن الدارس لسياسات الإدارات  الأمريكية المتعاقبة لا يجد صعوبةً في اكتشاف عدائها السافر للأمة العربية  والإسلام  ودعمها  لطاغوت حكامها وأنظمتهم القمعية في نفس الوقت التي تسعى فيه لإظهار الإسلام على أنه دينُ القتلِ وسفكِ الدماء من خلال تفريخ التنظيمات التكفيرية والإرهابية التي تؤمن بالقتل وتصور الإسلام على أنه دين الدماء والمجازر، وليس ذلك بخفيٍ على كلِ ذي عقل، أما الحكام في العالم العربي فقد أصبح واضحاً أن الإدارة الأمريكية بصدد الانقلاب  عليهم بعد انتهاء أدوارهم المرسومة، ولن تكون نتيجة التعاون المتكرس ما بين بعض الفئات  وأعداء الأمة العربية بأفضل مما سيحدث للحكام بعد استنفاذ مآرب أعداء الأمة من هذا التعاون، إن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية ليست مستغربة وهي سياسة مرحلية وجاء الآن دور الحسم وحانَ وقت تقسيم هذه الأمة وتدميرها.

إن الخيار الوحيد هو انضواء الجميع تحت ثقافة التوحيد فلا حياةَ لهذه الأمة إلا من خلال وحدتها وتراصها بكلِ مكوناتها  لإعادة الكرامة المهدورة بتفرقها  واختلافها،  واعتبارأ من الآن فإنه لن يكون لمصلحة أيٍ من العرب  التنحي  عن الطريق رأب الصدوع ما بين كل مكونات الأمة دون تمييز والخلاص من كل التصانيف التي تحدد من معنا ومن علينا، ولن تكون بعض الفئات إلا حلقة مرحلية تستخدمها الإدارة الأمريكية ومن ورائها الصهيونية لتحقيق مصالحها في المنطقة العربية ثم تلفظها بعد انتهاء أدوارها   ونحن لسنا بحاجة لتقديم الدليل  فالعالم العربي الآن يغط في مستنقعات الجهالة لاسيما وقد ضاعت بوصلته ما بين العداء لإسرائيل ومن ورائها أمريكا وما تقوم به الأنظمة الفاسدة من تغيير البوصلة لتوجهها ضد بعض القوى الإقليمية التي تختلفُ فيما بينها من أجل مصالحها الذاتية وليس مصالح شعوبها، إن البقاء على سدة الحكم أدى بالعديد من هذه الأنظمة الحاكمةِ القمعية إلى القبول بإملاءات القوى العظمى والتي يأتي في مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد آن الأوان لأن تتحول  الأمة العربية حكاماً ومحكومين  من مرحلة ردات الفعل إلى مرحلة المبادرة والمواجهة  ووضع الأمور في نصابها وصياغة عقدٍ جديد يضع مصلحة الأمة في مقدمةِ الأهداف قبل المصالح الشخصية والفئوية، لقد أهدرت طاقات هذه الأمة على مدى عدة عقودٍ من الزمن في صراعات داخلية داخلية وفي تصنيفاتٍ جدلية ما بينَ الرجعية والتقدمية والوحدوية والانفصالية ، لقد  حان الوقت لتوحيد طاقات الأمة في ســبـيـكةٍ واحدة تعتمد بناء الدولة الكبيرة في هذه الرقعة من العالم والتي تشرف على ثلاث قارات  ، ولا بد للجماهير العربية حكاماً ومحكومين من التمسك بالثوابت التي يرتكز عليه مفهومنا العروبي وجذوره التاريخية وإعلان ذلك بقوة في وجه الطغيان الأمريكي الصهيوني وفي هذا ما يكفي لأن تعيد الإدارة الأمريكية حساباتها .

لقد كان هذا البعد واضحاً في المبادئ التي أطلقتها ثورة الثالث والعشرين من تموز الخالدة لعام 1952 في النصف الثاني من القرن العشرين وكانت رؤية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في التركيز على الدائرة العربية والدائرة الإسلامية دليلاً على بعد النظر واستباق الكارثة،  ومن دواعي الأسف أن القوى العروبية   والإسلامية في ذلك الوقت  ولظروف يضيق المجال عن ذكرها  لم ترتقِ إلى مستوى الفهم الناصري للتاريخ والمستقبل وكان هذا الشرخ الذي كلف الأمة عقوداً من الزمن الضائع وهدراً  للطاقات التي كانت معيناً لا ينضب لتقدم الأمة العربية الماجدة .

إن المسؤولية كبيرة وينبغي التصدي لها بالجرأة التي تميز بها عشاق الوحدة والمخلصون لأهداف الأمة وفي سياق التطور الفكري الخلاق فإن ورثة الفكر الناصري مطالبون الآن بتجديد الخطاب  الإنساني والانتقال إلى مرحلة الدعوة لهذا المفهوم المتطور والعمل على التفاعل مع كل القوى الحية المخلصة في إطار التعددية  ومن أجل رفعة وكرامة الأمة العربية، على ورثة الفكر الناصري أن يكونوا البادئين بتوحيد الصفوف من خلال الفهم الواقعي لحركة التطور التاريخي وأن يكونوا صريحين  في تبني  المفهوم العروبي بكافة مكوناته وتأتي في مقدمها الوحدة الجغرافية  وإعادة اللحمة والسير يداً بيد مع جميع القوى الحية المخلصة للوصول إلى خلاص هذه الأمة مما آلت إلية وليس هذا على المخلصين بعزيز.

إن الخطرَ بات ما بينَ ظهرانينا، وما لم تصحُ هذه الشعوبُ النائمة فلن تقوم لهذه الأمة قائمة وسيلعنها التاريخ.