أين قصيدة اليوم من ذاكرة الجمهور؟
كنا دوماُ نستمع إلى القصائد القديمة على ألسنة عشاق الشعر، قصائد لشعراء من مختلف العصور ظلت حية إلى يومنا هذا ولم يكن من حفظوا أبياتها من مستويات ثقافية مرتفعة دوماً بل كانوا غالباً من عموم الناس.
عندما نتحدث عن واقع الشعر اليوم في ظل صدور الكثير من الدواوين والمجموعات الشعرية فإنه يخطر لنا السؤال التالي: لماذا غابت هذه الظاهرة عن قصيدة اليوم؟ ولو بحثنا حتى في الأسماء المعروفة في عالم الشعر اليوم لن نجد إلا نادراً من يحفظ من قصائدهم إلا النادر واليسير في أفضل الأحوال، فهل السبب غياب الأسماء الشعرية الكبيرة التي كانت أبياتها تستحق الحفظ أم أن القصيدة التي نراها اليوم فقدت بعض المعايير التي كانت تغري الآخرين بحفظها وتناقلها؟ أم أن هناك أسباباً أخرى توجهنا بهذا السؤال إلى الناقدين عماد الفياض وأحمد هلال علنا نجد ضالتنا لديهما وجاءت إجابتهما على النحو التالي:
قال الناقد أحمد هلال: إن زمنا مضى كانت فيه قصائد بعينها تتردد على ألسنة الناس لتصبح كما أيقونات لامعة، هذا الزمن مضى جله تقريباً، وفي الأعم الأغلب بانطواء شرطه التاريخي أو النفسي أو الثقافي، خاصة إذا لاحظنا أن غياب أسماء كبيرة قد هز هذه الذاكرة وأفقدها بعض الشيء القدرة على التخطي لأسماء جديدة، فضلاً عن أن النقد بفعالياته واشتغالاته وبوصفه الحامل لها قد وقف كما يرى هلال عند أسماء بعينها وانغلقت ذائقة البعض من المشتغلين في هذا الحقل عند تجارب معينة، مما يعني انقطاعاً ولو جزئياً إن أردنا تبسيطاً ما عما يكتب أي التجارب الجديدة، بصرف النظر عن تجييلها إلا من ناحية إجرائية صرفة ما يعني وفي ظل ما تقذفه المطابع من أعمال شعرية تتوسل المغامرة الإبداعية، وبعضها يشكل مغامرات غير محسوبة أن الذائقة تغيرت وشابها شيء من الحذر في تلقي بعض هذه الأعمال على الأقل، لاسيما تلك التي شكلت انقطاعاً عما أنجزه الرواد بالمعنى المعرفي والثقافي وجهرت بشواغل تتوسل الحداثة أو التخطي حتى أنه يمكن القول وللمفارقة أن ثمة شعراء معاصرون يجد الناس صعوبة في حفظ قصائدهم، ناهيك عن أن هذه القصائد أو سواها حملت طبيعة فلسفية عالية هي الأميل للتأمل الذاتي وتحريض الفكر منه إلى طبيعتها المختلفة من حيث إبهامها وغموضها وتخففها من طبيعة غنائية تمكن من استذكارها أو استدعائها نعم ارتبطت هذه الظاهرة بشعراء نجوم ذوي حضور يكاد يكون شعبياً ناهيك عن مؤازرة النقد لهم.
هوية الإبداع
ويرى هلال أن غياب أو تغيب الأسماء الكبيرة بفعل الموت أو الانكفاء لم تعوضه البدائل إلا في حالات جد استئنائية حيث فرضت ذاتها في ساحة الإبداع وحملت هوية الإبداع الحقيقي على غير مستوى، ويعزو الناقد هذه الظاهرة وهي ظاهرة مركبة متشابكة لها سياقاتها التاريخية والثقافية إلى ارتطامات القصيدة المعاصرة إن صح التعبير بأمواج الحداثة واتجاهاتها وتياراتها وارتكابات تجريبها وأثمانه الموضوعية وظل البعض يردد قصائد مدونة الشعر العربي الموروث بما يشكل العزاء عن فقدان الكثير من قصائد اليوم لحساسيتها وثقافتها وموهبة أصحابها.
حضور القصيدة المثقفة
ورغم ضبابية المشهد والتباسه ووعورة تأويله يرى هلال أن القصيدة المثقفة حاضرة
وهي من يعول عليها إحياء تلك التقاليد إن جاز التعبير أيضاً من فنون التلقي وإحياء الذاكرة صحيح أنه وفي حيز المقاربة الشعر اليوم وبفعل الحرب الكونية على سورية كان الأسرع باستجابته ومحاولته التقاط اللحظة وتوشيحها بفيوضات الوجد والزخم العاطفي النبيل، إلا أننا يمكن أن نسأل هنا سؤالاً ينطوي على تحد مثير بقدر ما فيه من مغامرة أيضاً: أي القصائد ستبقى طويلاً في الذاكرة وترددها الأجيال القادمة؟.
مقومات الشعر
عندما طرحنا السؤال على الناقد عماد الفياض عاد إلى لقاء مع الشاعر ممدوح عدوان قال فيه إنه يتمنى لو يحفظ طلبة الجامعة قصائده- طبعاً هذا لم يحدث- وهذا الجواب يحمل في طياته حجم الألم الذي يحس به الشاعر عموماً بسبب عدم حفظ القارئ لقصائده، وأعاد الفياض طرح السؤال بصيغة أخرى هل توقفت الذائقة عند عدد من الشعراء لأن شعرهم مشحون بالحكمة والمعنى والعمق، وأيضاً بسبب غياب الأسماء الشعرية الكبيرة، معتبراً أن هذا أحد الأسباب وبرأيي- والكلام للناقد الفياض- القصيدة التي تدعو إلى الحفظ فيها نكهة خاصة تشد القارئ إليها لأن فيها ما يعبر عن ذاته في الحب والرثاء والحماسة والوصف، لذلك نجد أن قصائد المتنبي صارت حتى على ألسنة العوام حكماً وأمثالاً ومواعظاً ودروساً في الحياة، أما الآن لا يحفظ الناس القصائد لأنها أقرب إلى الذهنية, وتميل إلى الغموض, وتحوم حول الفكرة ولا تقولها. قصائد تعتمد على اللغة وتشكيل المفردات, وهذا لا يكفي. بالإضافة إلى أن أغلب ما يكتبه شعراء العمود اليوم هو تنويع على ما كُتب سابقاً. ويغيب عن بالهم أن الموسيقا والقافية لا تصنع الشعر, وإنما تساعد على النظم فقط.
ماذا يحفظ شعراء اليوم؟
وطرح الفياض مشكلة في المشهد الشعري اليوم لا تقل أهمية عن السؤال السابق عندما قال في معرض إجابته لو سألنا الآن حتى الشعراء أنفسهم ماذا تحفظون من قصائد اليوم فلن نجد الجواب وربما غمغم أحدهم بكلام غير مفهوم محاولاً التذكر وعند التذكر فإنه في أحسن الأحوال يعطي عناوين عريضة فقط، ويذكر الناقد في هذا الخصوص حواراً قديماً مع الشاعر والناقد نذير العظمة في جريدة الأسبوع الأدبي لامس فيه جانب من الحقيقة عندما طَرح عليه المحاور هذا السؤال: ماذا تحفظ من الشعر الحديث؟ كانت المفاجأة أنه لا يحفظ شيئاً ويعترف أن محفوظاته جميعها من الشعر القديم، أما عن القصيدة الحديثة فقد برر عدم حفظه لها بأنها تبقى حالة خاصة، طقس ومعنى عام يحضر بكليته لكنه عصي على الحفظ.
فضل الموسيقا والغناء
في الوقت ذاته رأى الفياض أنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك شعراء حالفهم الحظ وحفظنا قصائدهم والفضل في ذلك يعود إلى الغناء الذي ساعد القصيدة على الوصول والحفظ، فمثلاً صرنا نحفظ قصائد نزار قباني وسعيد عقل وبدرجات أقل قصائد محمود درويش وربما كانت قصيدة سميح القاسم (منتصب القامة أمشي) بقيت قصيدة عادية حبيسة الكتب لو لم يكتشف مارسيل خليفة الطاقة الموسيقية فيها فأصبح يرددها الملايين وكذلك قصيدة محمود درويش (أحن إلى خبز أمي) لو لم يطلقها مارسيل خليفة لبقيت بعيدة عن الذاكرة، وهذا يعني أن الموسيقا والغناء يمكن لهما القيام بتفجير الطاقات الكامنة للقصيدة وبذلك لن تبقى القصيدة عالية الصوت هي التي تدعو للحفظ وإنما يمكن للقصيدة الهادئة المشغولة بروح جميلة التسلل إلى وجدان القارئ لذلك أعتقد أن الغناء أحد روافع الشعر ووسيلة أساسية لحفظه.
جلال نديم صالح