“في ظل الريح”.. حكاية من الكتب المنسية
“هذا المكان سر يا دانيال، إنه معبد، حرم خفي. كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما. روح من ألفة وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كل مرة يغير الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية”.
ينفتح السرداب في ليلة مظلمة، ويفتح معه حكايات كثيرة، من هنا تبتدئ الحكاية، تنسج تفاصيل حياة شخصيات عديدة وتدخلك في عالم متشابك ينتقل بين الماضي والحاضر وتمسك بيدك لتأخذك إلى لمستقبل، تنتقل بين أزقة المدينة ومكتباتها، ترى كتباً تحترق ومذاكرات تروى وجرائم تحدث، وقلوب تنبض بالحب.
في “ظل الريح” نعيش أجواء مدينة برشلونة في فترة الحرب العالمية الثانية، عصر الديكتاتورية والظلم والدماء في عهد فرانكو، فيسترسل “كارلوس زافون” في وصف مدينته حيث نعيش سحر المدينة بتفاصيل شوارعها والترام الذي يخترقها، بطابعها القوطي مثل وصف الأبواب المهيبة لمقبرة الكتب المنسية، نستمتع بمناخها وأشعة الشمس بحواريها الضيقة وحتى العاصفة الثلجية بنقطة ذروة أحداث الرواية.
اعتمد زافون على ثيمة “مقبرة الكتب المنسية” ليأخذنا في رحلات متعددة في أربعة أجزاء، فكانت البداية مع ظل الريح، يلملم الكاتب أجزاء مرآته المكسورة والمبعثرة عند شخصيات روايته، فيأخذنا في رحلة استكشافية بوليسية لنجمع البلورات فتبدأ القصة باصطحاب الأب سيمبري ابنه دانيال لمقبرة تعج بالكتب المنسية، مكان ساحر بتصميمه ممتلئ بأرواح الكتّاب المحلقة بين رفوفه، كتّاب منسيون اختفى أثرهم بفعل الزمن، لكن أبت تلك المكتبة أن تنساهم فخلدت ذكراهم، ستغوص في متاهة حتى تعتقد أنك ضللت الطريق ليعيدك إلى الحكاية الأصلية مرة أخرى، ستدهشك كل تلك المتاهات سترسم خيوط تشبيكها ببعضها كالعنكبوت تماماً.
يختار دانييل “ظل الريح لخوليان كاراكاس” ليكون صديقاً له، كتاب يشبه دانييل بطريقة غريبة، ويربطه بالكاتب لحد يحثه على التقصي والبحث أكثر، ليتفاجأ بألغاز عديدة تكشف معها أسباب اختفاء هذا الكتاب وحرقها من شخص غامض يبحث عن كل نسخ رواياته ليحرقها، تتشابك قصة حياة دانيال، مراهقته وشبابه مع قصة ماضي مؤلف روايته المفضلة
بعد أن يقرأ دانييل الكتاب يتولد لديه الفضول لقراءة أعمال أخرى له، فيلجأ إلى صاحب أكبر مكتبة في برشلونة، فينتقل الفضول إليه ليتقصى إمكانية إيجاد الكتاب ليأتي بمعلومات عن وجود شخص يقوم بحرق جميع نسخ كتب خوليان، والنسخة الوحيدة المتبقية هي التي بحوزة دانييل.
“لايين كوبيرت” الرجل المقنع المجهول الذي يخرج من نص الرواية المحفوظة في القبو، ويتجول ليقابل ويتحدث مع الشخصيات الواقعية، ويقوم بحرق نسخ رواية كاراكاس وملاحقتها أينما وجدت، لنفاجأ في النهاية بأنه هو الكاتب نفسه، يقوم بحرق كتبه كردة فعل على مصرع حبيبته وجنينها، وهو الذي انتظر لقاءه بها أكثر من سبع سنوات، يكتب وينسج رواياته على إشعاع ذاك الأمل الذي انطفأ. وبينما يبحث دانيال عن الحقيقة وراء كاراكاس، يلتقي بالعديد من الشخصيات المختلفة ويكون صداقات متنوعة مثل “فيرمين روميرو دي توريس” المتحذلق ذي الأفكار الفلسفية الغريبة والنظرة المتفردة للحياة الهارب من بطش البوليس السياسي الفاشستي، وبالرغم من دوره المهم في مساعدة دانيال في رحلة البحث عن لغز كاراكاس، إلا أن مطاردة الضابط الفاشي الفاسد المفتش “خافيير فيرمو” له سيجعل الأمور صعبة، هناك أيضاً الأب “فيرناندو راموس” وذكريات الصداقات القديمة الضائعة، و”نورا مونفورت” ابنة حارس مقبرة الكتب التي أثقلت كاهلها الآمال الشاحبة والواقع المُخيب ولما كانت هي الوحيدة التي تجمعت لديها كل الأسرار حتى النهاية وتحملت مشقة ذاك الحمل وهي على علم بأنها لن تجني من تورطها في حياة كاراكاس سوى الشقاء والآلام.
هذا الكتاب الذي كان عبارة عن رواية ضمن رواية، ضم في ثناياه قصة ضمن قصة مترابطة جمعياً بخيط شفاف لكنه حاسم وحاد قادر على تغيير مسار الكثير من الحبكات، كتاب يسافر بالقارئ إلى عوالم أخرى فتشعر وكأنك داخل فيلم تركض مع البطل في محاولة لاستكشاف الأحداث التي تلاحقه، ستمر على مواقف مرعبة وتدوس على قلوب متكسرة، ستضحك قليلاً على طرائف الشخصيات وستبكي كثيراً على مآسيهم الشخصية، ستجري تحت المطر المنهمر هارباً من قصر مهجور إلى مكتبة مندثرة، تركض بين الأزقة العتيقة لتصل إلى ميناء هادئ أو لتحتسي فنجان قهوة داكنة في مقهى منسي.
ظل الريح كتاب له طعم وشكل ولون ورائحة وروح، زافون في كتابه الممتد على ما يقارب 520 صفحة لن يمل القارئ من السرد الممتع والمفعم بالحياة، والذي استطاع نقلها “معاوية عبد المجيد” بترجمته الاحترافية التي اعتمد فيها على النص الإسباني الأصلي اعتماداً كلياً، واستند إلى الترجمة الإيطالية ولجأ مراراً إلى الترجمة الفرنسية واطلع بشكل جيد على الترجمة الإنكليزية، في سبيل نقل هذا النص السردي الرائع بأفضل ما يمكن، فجاءت اللغة سلسلة لرواية ملحمية تأسرك بكمية التشويق التي تحتويها والغموض الذي يعتريها.
عُلا أحمد