ترامب ونضج العنصرية
لمى عجاج
أمريكا هي بلد الرجل الأبيض، إنها النظرية المتأصلة في جذور السياسة الأمريكية، لقد ولدت العنصرية في أمريكا تزامناً مع ولادة هذا البلد، فالأفكار العنصرية عن سيادة البشرة البيضاء لها تاريخ طويل في أمريكا، ولا تزال مستمرة حتى اليوم بوجود الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي يتبنّى الفكرة العنصرية القديمة ذاتها.
ومنذ أن تولى سدّة الرئاسة والولايات المتحدة تشهد العديد من الهجمات العنصرية المتمثّلة بالعداء للأقليات العرقية وللإسلام والمهاجرين، “فالمهم أن تكون أبيض بغضّ النظر عن الأصل الذي تنتمي إليه”، وقتها فقط تملك الحق بالمطالبة المشروعة بالجنسية الأمريكية وكل ما تتضمنه من مزايا، وفي حال لم تكن أبيض فأنت منبوذ ومجرد من حقوقك.
لم يُجاهر ترامب بعنصريته ولكن مواقفه وسياساته دلّت عليها، وربما هذا هو السبب الرئيسي في اعتناقه وترويجه لنظرية المؤامرة المشوهة والمضطربة والمتعلقة بمسقط رأس الرئيس السابق باراك أوباما، فهو بالنسبة لترامب رئيس غير شرعي لأن الرئيس الأمريكي يجب أن يكون أبيض، وربما هو السبب أيضاً في عدم سماحه للمهاجرين القادمين من الدول الأفريقية التي وصفها بـ”بؤر القذارة” بدخول الولايات المتحدة وحجزهم وراء جدران جداره الحدودي، وقبوله عوضاً عن ذلك باستقبال المهاجرين من دول شمال أوروبا كالنرويج –كخيار بديل-، فبالنسبة لفكره العنصري المتطرف الأفضل أن يستقبل النرويجيين على الأفارقة.
تعتمد أجندة ترامب بشدة على هذه الفكرة والتي مفادها أن حدود الحقوق والمواطنة تتداخل بشكلٍ وثيق مع العرق، وبالنتيجة يتمتّع أولئك الموجودون داخل حدود ترامب بثمار الحرية الأمريكية، بينما يواجه من يعيش خارجها جميع أشكال القمع الأمريكي، لأجل ذلك يتمّ الترحيب بالمهاجرين الأوروبيين البيض من أمثال السيدة الأولى ميلانيا ترامب، بينما يتمّ وضع المهاجرين من ذوي البشرة الداكنة والذين جاؤوا من أمريكا اللاتينية في الأقفاص والمخيمات.
من المهمّ أن نقول إن هذا ليس جديداً على الحياة الأمريكية، فمنذ وقتٍ بعيد يعتقد الجيل الأول المؤسّس لأمريكا أن البياض هو شرطٌ مسبق لممارسة الفضيلة الجمهورية، وأن السود غير لائقين للحياة الديمقراطية بل ويتعارضون معها، مما يعني أن ترامب ليس مبتكراً لهذه النظرية، فنظريته عن المواطنة هي نظرية قديمة أُعيدت من هوامش السياسة الأمريكية ولكنه عبّر عنها بأسلوبه الديماغوجي الخام، نظرية عنصرية وجدت لها مكاناً مريحاً في حزبٍ جمهوريٍ يرفع قاعدته الضيّقة والانكماشية بصفتها الممثل الوحيد لأمريكا الأصلية، مفضلاً تقييد الناخبين عوضاً عن إقناع الناخبين الجدد، لذلك فإن نظرية المواطنة التي وضعها ترامب تساعد في تفسير بعض تصرفاته غير العادية، ومنها على سبيل المثال امتداحه لفريق الهوكي الذي ينحدر أعضاؤه من أصول أجنبية، ووصفهم بـ”الوطنيين” لمجرد أن جميعهم من البيض، في حين شنّ هجوماً عنيفاً مليئاً بالخطاب العنصري على أربع نائبات ديمقراطيات من ذوي البشرة السمراء (اليكساندرا أوكاسيو كورتيز عن ولاية نيويورك، والهان عمر عن ولاية مينيسوتا، ورشيدة طالب عن ولاية ميتشيغن، وآيانا بريسلي عن ولاية ماساتشوستس)، والنساء الأربع مواطنات أمريكيات ولدن في الولايات المتحدة ماعدا واحدة منهن، جميعهن كنّ عرضةً لهجومٍ عنيفٍ من ترامب الذي هاجمهنّ في تغريدة عبر تويتر مفادها: “إذا لم تكنّ سعيدات في الولايات المتحدة وإذا كنتنّ تشتكين طيلة الوقت فبإمكانكن الرحيل إلى بلدانكن الأصلية”، بلهجةٍ يملؤها الكره والغضب، وهي طريقته المفضّلة التي ينتهجها للفت الانتباه إلى ما يصدر عنه من مواقف، فكلما وجد أن الأمور لا تسير وفق أهوائه يلجأ إلى التغريدات الغاضبة لجذب الأنظار إليه، كالذي حصل عندما تخلّى ترامب عن إدراج سؤال الجنسية في التعداد السكاني، وتراجع عن سعيه لإضافتها إلى نماذج الإحصاء التي تتمّ طباعتها حالياً لعام 2020.
إضافة إلى السياسات الصارمة التي اتخذها للحدّ من ظاهرة الهجرة بعد فشله في تمويل بناء جداره الحكومي عقب معارضة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي لهذا القرار المتهور، ثأر ترامب من هذا الفشل بإعادة التلويح بورقة المهاجرين غير الشرعيين في معركة الانتخابات الرئاسية القادمة في إطار تكتيكاته التي غالباً ما تكون خارج نطاق النزاهة السياسية، وهذا ما يفسّر الخطاب العنصري الذي يستخدمه ترامب ضد النائبات الأربع، وهو مناورة جديدة لتشتيت الانتباه عن إخفاقاته السياسية، كالخلاف الذي اندلع بينه وبين رئيس المحكمة العليا على ضوء تصريحاته المتهورة ليطلق ترامب ضده موجة من الانتقادات ويتهمه بأنه “قاضٍ من قضاة أوباما”، ناهيك عن غيرها من الأخبار والأحداث المحرجة، ومنها على سبيل المثال التغريدة التي أرسلها عبر تويتر خلال فترة استراحته من التجهيزات الخاصة بلقاء الزعيم الكوري كيم جونغ أون في هانوي عاصمة فيتنام، ليردّ فيها على محاميه السابق مايكل كوهين ويتهمه بالكذب من أجل تقليل عقوبة السجن (المحكوم عليه بها) عندما كان يدلي بشهادته أمام الكونغرس، والحملة الهوجاء الواسعة النطاق التي أطلقها في أعقاب إغلاق حكومته في الشتاء الماضي.
كلما كان مزاج ترامب متعكراً ارتفع منسوب الحدّة في تعليقاته، وهذا ما يفسّر ما صدر عنه من تصريحات مؤخراً، فعلى ما يبدو أنه كان مشحوناً بقدرٍ كبيرٍ من اليأس وخيبات الأمل ليتلفظ بمثل هذه الألفاظ البذيئة في حق النائبات الأربع في خطابٍ كان الأشد عنصرية والأطول تقريعاً، وكالعادة لم يُلق ترامب بالاً للتغطية الإعلامية التي طالت خطابه المسهب وللدعوات التي طالبت باتهامه بالعنصرية، بل على العكس ذهب لأبعد من هذا الحدّ في غروره ليطالب “أعضاء الكونغرس من اليسار الراديكالي” بالاعتذار من الأمريكيين ومن الإسرائيليين، وبالطبع من “المكتب الرئاسي”، أي بالاعتذار منه شخصياً بسبب “اللغة البذيئة التي استخدموها” والأشياء الفظيعة التي قالوها.
إن الذي يسعى إليه ترامب من وراء كلّ هذا هو تأجيج حرب ثقافية يصعب إخمادها ليضع منتقديه في ورطةٍ كبيرة، وعندما يتأكد من أنهم ابتلعوا الطعم ووقعوا في المصيدة يقوم هو بالهجوم المباغت ليلهيهم عن الهدف الأساسي ليفتعل فجوةً كبيرةً من الخلاف والانقسام، ليعطي مؤيديه جرعةً من النشاط أو ربما ليجعل خصومه يتقبلون سلوكه المهين ويروّضون أنفسهم على تحمّل نوبات غضبه وانفعالاته الغريبة. السيد ترامب الذي يحاول أن يُبدي عدم اهتمامه بالسباق الرئاسي يضع جلّ اهتمامه على تعزيز الانقسام من خلال استثارة خصومه وتحديهم، لذلك نراه اليوم يُسعّر فورة غضبه على النائبات الأربع المعروفات بـ”الفريق”، ويعمل على التقليل من شأن المخاوف من أن تكون تصريحاته “عنصرية”، الأمر الذي أثار غضب الديمقراطيين الذين تحركوا لإدانته في مجلس النواب، ولكن جوابه كان: “إن هذا الأمر لا يعنيني لأن الكثير من الناس لا يتفقون معي”. وكانت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي قد ذكرت بأن ترامب يريد أن يجعل “أمريكا بيضاء مرة أخرى”، وصرّحت بأنها تسعى للتوافق مع الجمهوريين لإصدار قرار يدين التغريدات التي تحضّ على كراهية الأجانب والمهاجرين، وشدّدت قائلة: “لا يمكن لمجلس النواب أن يسمح للرئيس بتوصيف المهاجرين إلى بلادنا، ويجب على الجمهوريين الانضمام إلينا في إدانة تغريدات الرئيس ترامب المعادية للأجانب”.
لقد كان جواب ترامب “لا يعنيني” خير دليل على أن انتقادات الديمقراطيين لا تهمّه، لأنها تصبّ في المصلحة التي تخدم الغرض السياسي الضيّق الذي يسعى إليه، في حين أن التوبيخ من الجمهوريين سيؤدي إلى تقويضه وربما سيدفعهم إلى معاقبته، لكن من الواضح أن معظم الزعماء الجمهوريين إما مسرورون جداً من اختياراته القضائية المحافظة أو أجندته غير القانونية، أو أنهم خائفون من تبعات خطابه الملتهب. فعلى الرغم من اعترافهم بمحتواه العرقي المتعصّب وخوفهم من تأثيره على حزبهم وبلادهم، إلا أنهم -كما في كل مرة- لم يظهروا أية ردة فعلٍ حياله. ولكن على الأقل في هذه المرة استجمع عددٌ قليلٌ من الجمهوريين شجاعتهم للتعبير عن رفضهم لهذا الخطاب العنصري، من أمثال ويل هيرد الممثل الجمهوري عن ولاية تكساس، وسوزان بروكس عن ولاية انديانا، ومايك تيرنر عن ولاية أوهايو الذين اعتبروا أن تصريحات ترامب “عنصرية” وطالبوه بالاعتذار.
من جهةٍ أخرى كان هناك أيضاً ليندسي جراهام السيناتور الكبير من كارولينا الجنوبية والذي بات قريباً من ترامب بعدما كان من أكثر منتقديه، والذي قال في تصريحٍ له لفوكس نيوز: نعلم “أن الكسندريا اوكاسيو كورتيز وفريقها لسنّ سوى عصابة من الشيوعيين، وأنهن من المعاديات للسامية ولأميركا”، ولكنه أضاف: إن نشر هذه التغريدات ليس “جيداً” لترامب.
في النهاية يظلّ أحد التحديات الكبرى التي تواجه رئاسة ترامب هو كيفية التعامل مع غضبه وضبط انفعالاته، والضغط على الزر المشغل ليكبح جماح غضبه، فهل تكون تغريدات ترامب “العنصرية” الغاضبة خطة محكمة لإعادة انتخابه؟!.