الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

ندى الحلم

سلوى عباس

كل ما حصل في ذلك المساء كان يساوي لحظة واحدة من زمننا الأرضي، لكنه دهر من زمن السموات.. لم تدر كيف اتسعت تلك اللمسة لكل ما أحسّت.. كانت حركة عادية وفي حدود هي أقل من مصافحة.. كيف اتسعت لما أكثر من عناق.. وكيف نشرت في مسامها صواعقها، كيف احتدم الكلام في حلقها فتلعثمت.. كانت مجرد لمسة دفعت بريح شفيف إلى ليالكها البرية وغمستها في رطوبة غمامة.. أيقظت فيها حساً كانت تظن أنه مضى.. أيقظته كما غدير ماء يندلع في غير ما ربيع.. كيف تم كل ذلك.. كيف استقت سريعاً هذه النبتة بنسغ الحب.. كيف تبرعمت في المساء تحت ضوء ينسحب في المغيب.. كل شيء يسير سريعاً كانهيار سد.. كل ما حولها بدا لها غير مهيأ لدرء عاصفة مرتقبة.. تساءلت: هل كانت الدنيا وقتها تدور باعتياد؟ والوقت هو نفسه الوقت؟ ألم تلحظ الشمس شيئاً.. ألم ينمو الصفصاف هكذا على حين غفلة من النهر.. كانت تظن فيما مضى أن لا شيء يوقظ فيها قصائدها، لا أحد يعيد لها سهد الليالي الشهي، وأن لذاك الشرود اللذيذ وقتاً قد مضى، وأنها كَبُرت على الاشتياق، وفقدت متعة الانتظار، وحرائقه القدسية.. كانت تظن فعلاً أنها غادرت بعضاً من أجزائها، وأن لتلك الأحاسيس الدافئة لديها عمراً قد انتهى، وأصاب الجفاف روحها في جذورها، ولا غيمة ستأتي ولو متأخرة لتدقّ أجراسها الاحتفالية في مسامها، وترشّ غيثها على جسدها ألواناً وأزاهير.. كانت تظنه القوس الأخير، غادر قبّته البهية، ثم انطوى إلى الأرض مبعثراً كما روح من زجاج فقدت قدرتها على التحليق، لا أحد يدق باب القلب.. لا أحد يضيء حجراته الباردة، لا ليل يأتي ولا نهار.. كل شيء من الرمادي يبدأ، ثم لا ينتهي إلا به.. ما من زرقة ستأتي، ولا اخضرار.

حاولت الإفلات من إحساسها والهروب من حالة داهمتها فجأة وبصوت هامس قالت: قد أقسو قليلاً أو كثيراً عليه.. بل عليّ أنا أكثر.. قد أقسر روحي على أن تهدأ.. وأخطو خطوة إلى الوراء حتى لو كان في الوراء.. هاوية.. لكن صوتاً آخر كان يرتل رجاءه للأقدار أن لا تجر قدمها إلى الوراء.. وكان أن استسلمت للحلم –القدر-.

كانت قد عاشت تجربة الحب أكثر من مرة، لكن واحداً فقط حلّق بها في سماءات لا تعرفها، واحد استلّ روحها من رمادها، وأشعل فيها دفئه المدهش، واحد استمطر نجومه على قلبها، ذلك الذي أمسك بها وقرأها ككتاب.. هنأ صفحاتها بوقع التماع عينيه على أوراقها.. هدأت روحها بين يديه، وأسكن فيها السلام.. كحصاة ساقها الماء إلى مستقر لها، فغفت في وداعة عصفور أتعبه الرحيل، واكتسته رطوبة المساء.

الآن.. وقد أصبحت وحيدة، كيف له -قلبها- أن يرفل بالنور، ولا نور.. وكيف له أن ينبض، ولا شيء بعد حزنه يستحقّ النبض.. صورته ممدودة على الأفق، وبريق عينيه يهدي لها طريقها، شاء أن يرحل، ويلم دفئه عن قلبها، وأن يوصد السماء على الأرض، ويغلق ينبوع اتقادها به.. فلا اتجاهات بعد اليوم، ولا فصول.. لا نهار ولا ليل.. كل شيء سيسير كأنه في فضاء لا ينتهي.. كل شيء يستحيل رمادياً، لا لون ولا طعم.. فقد كان الهواء الذي تعيش به.. وما زال.. وكان الماء الذي يغسل روحها.. وما زال.. وكان أميرها في الحب.. ومازال.