التصعيد الاستثنائي في منطقة الخليج العربي
لمى عجاج
لسنوات طويلة دفع حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي واشنطن إلى التشدد في التعامل مع إيران، فلطالما أضمرت المملكة السعودية العداء لإيران، لكن اليوم ومع تصاعد وتيرة الأحداث باتت دول منطقة الخليج غير واثقة مما تريد، فمسلسل التصعيد في المنطقة لا ينتهي بل يزداد إثارة، ووسط تضارب الروايات وتواصل التهديدات يتابع العالم تطور الأحداث بالكثير من القلق، فالكثير من المسؤولين والمحللين في الخليج يتطلعون إلى أن تكون الولايات المتحدة أكثر قوة في “ردع” إيران بعد أن كشفت التوترات المتصاعدة في الخليج العربي عن خلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين حول مدى قوة إدارة ترامب في مواجهة إيران، فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هي المتضرر الأول من احتمالات إغلاق مضيق هرمز ما يجعلها في قلب المعركة لأجل ذلك عملت طوال هذه الفترة على تحريض واشنطن وتأجيج نار الحرب من خلال فرض العقوبات على إيران وشلّ اقتصادها وعزل قيادتها. لكن وفي نفس الوقت كان لواشنطن رؤية مختلفة دوماً فهي تبحث عن تأمين مصالحها العسكرية والنفطية في المنطقة وتحاول تجنب تكلفة الحرب التي قد تندلع في المنطقة والتي لن تكون قادرة على تحمل تبعاتها.
تردد وعدم إجماع
في ظل تضارب المواقف داخل الإدارة الأمريكية وخارجها كان هناك أيضاً تضارب في المواقف حتى داخل الحلفاء فيما بينهم، الإمارات التي تفضل التهدئة والسعودية التي تجنح إلى الحرب، فالولايات المتحدة وحلفاؤها العرب مختلفون حول جدوى المفاوضات في حل الأزمة وكذلك حول الدور الذي يجب أن تلعبه هذه الدول في ضمان أمنها كما يقول الدبلوماسيون ما يعني أن دول الخليج المتحالفة مع الولايات المتحدة لا تعرف تماماً ماذا تريد لتحديد أنجع السبل تجاه إيران.
فعلى الرغم من وجود إمكانية كبيرة لأن تجد هذه الدول نفسها في الخطوط الأمامية لصراع عسكري محتمل مع إيران نجد أن التردد هو سيد الموقف فهذه الدول غير قادرة على حسم موقفها والدليل تذبذبها في دعم الموقف الأشد صرامةً الذي اتخذته الولايات المتحدة بعد الأحداث الأخيرة. ويرى محللون أن التصريحات المتضاربة الصادرة في السر والعلن من دبلوماسيين وإقليميين تقف شاهداً على عمق الخلاف المحتدم بين الحلفاء حول ملامح السياسة المتبعة بقيادة أمريكا والتي يُعتقد أنها قد تفضي إلى حرب، فبعد أن ألقت واشنطن باللائمة على إيران في الهجمات الأخيرة على ناقلات النفط التجارية قرب مضيق هرمز، أحجمت معظم دول الخليج عن التصريح علانية بمسؤلية طهران في تلك الحوادث بل على العكس من ذلك دعت إلى اللجوء إلى الحوار وضبط النفس، حيث قال وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان الشهر الماضي: “بصراحة ، لا يمكننا توجيه اللوم إلى أي بلد لأننا لا نملك أدلة” وأضاف “إذا كان هناك بلد لديه الدليل، فأنا مقتنع بأن المجتمع الدولي سيستمع إليه لكننا بحاجة إلى التأكد من أن الأدلة دقيقة ومقنعة”، وذلك فيما يتعلق بالهجمات على أربع ناقلات قبالة مدينة الفجيرة الساحلية بدولة الإمارات العربية المتحدة، كما أيدت فيديريكا موغريني مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي اقتراحاً عراقياً بالوساطة بين إيران والولايات المتحدة لمحاولة التقليل من خطر “عواقب وخيمة” على المنطقة.
كانت الإشارات الواردة من الإمارات المتحدة التي تربطها علاقات تجارية قوية مع إيران متباينة وقلقة بشأن ما تعتزم الولايات المتحدة القيام به بخصوص إيران، وهذا ما عبر عنه المحلل السياسي الإماراتي عبد الخالق عبد الله عندما كتب على تويتر: “لقد حان الوقت لكي لا تضع دول الخليج العربية بيضها في سلة أمريكية متذبذبة”. غير أن النهج الأكثر حزماً الذي تبنته المملكة السعودية – وخاصة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – وضع المملكة على خلاف مع بعض حلفاء الولايات المتحدة الأصغر في المنطقة الذين يرغبون في رؤية الأزمة وقد تمت تسويتها من خلال المفاوضات، فالكويت وعُمان المرتبطتان بعلاقات ثنائية مع إيران استاءتا بشكلٍ كبير من محاولات السعودية للضغط عليهما لتبني سياسة خارجية أكثر تصادمية مع إيران من شأنها أن تسهم في تأزم الوضع والزيادة من خطورته، حيث قال دبلوماسي كويتي بارز طلب عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالتحدث إلى وسائل الإعلام “موقف الكويت واضح ويهدف إلى ضبط النفس من جانب جميع الأطراف وتجنب التصعيد في المنطقة”. فقبل عامين قام وزير الخارجية الكويتي بزيارة نادرة إلى طهران سعياً للحوار لكن يبدو أن هذه المساعي باءت بالفشل.
قلق خليجي من استراتيجية واشنطن
يخشى بعض المسؤولين والمحللين في المنطقة من أن الاستراتيجية الأمريكية المتمثلة في “أقصى قدر من الضغط” على إيران – والتي تقول الإدارة إنها تهدف إلى إجبار إيران على التفاوض بشأن صفقة نووية جديدة والتخلي عن برنامج الصواريخ البالستية- أن تعرض دول الخليج العربي إلى خطر التورط في صراع دون ضمانات أمنية قوية وخاصة بعد الإحباط الذي أصاب الخليج لعربي عقب إحجام إدارة ترامب عن توجيه ضربة عسكرية ضد إيران إثر إسقاطها لطائرة تجسس أمريكية مُسيرة فوق مضيق هرمز الشهر المنصرم، الأمر الذي اعتبره المحللون ” علامة ضعف” من الجهة الأمريكية، ما عرض إدارة ترامب إلى الانتقاد الشديد، فبعد أن كال ترامب الاتهامات لإيران عاد ليقلّل من شأن الهجوم على ناقلتي النفط في بحر عُمان ولدى سؤاله عن أهمية منطقة الخليج العربي الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أجاب
” نحن لم نعد في الموقع الذي كنا فيه سابقاً ” ، وأضاف فيما يتعلق بالنفط الخليجي “فإن هناك دولا تتزود بالنفط بشكلٍ كبير من منطقة الخليج مثل الصين واليابان، أما بالنسبة إلينا فنحن نحصل على كميات ضعيفة جداً “، ما شكّك مرة أخرى في دور الولايات المتحدة كضامن أمني في منطقة الخليج، وهذا ما عبر عنه هنري روما وهو محلل للسياسة الدولية في شؤون الشرق الأوسط في مجموعة أوراسيا ومقرها نيويورك عندما قال:” إن دول الخليج في وضع حرج”، وأشار إلى أن الشكوك التي أثارها ترامب بشأن حماية المملكة السعودية والإمارات المتحدة مماثلة للأسئلة التي أثيرت سابقاً حول الضمانات الأمنية الأمريكية لليابان وكوريا الجنوبية والحلفاء الأوروبيين، وأضاف روما ” تريد دول الخليج أن تثبت أن مليارات الدولارات من المشتريات العسكرية لم تذهب سدى وأنه يمكنهم المساعدة في الدفاع عن أنفسهم، لكنهم لا يريدون إعطاء الانطباع بأنهم يستطيعون الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، خشية أن يغروا ترامب بجمع قواته والعودة إلى المنزل”.
وقال سانام فاكيل كبير الباحثين في برنامج الشرق الأوسط في تشاتام هاوس معهد السياسات ومقره لندن، عندما تفاوضت الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى على الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران لكبح أنشطتها في مجال الطاقة الذرية في مقابل تخفيف العقوبات الكبرى فإن دول الخليج “شعرت بالتخلي عنها” من قبل إدارة أوباما، وعندما قدم ترامب طموحه الطويل الأمد لإخراج الولايات المتحدة من الصفقة النووية لعام 2015 وضع واشنطن على مسارٍ تصادمي مع إيران وأصبحت أمريكا على خلاف مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا في حين أعادت إيران ضبط المجال الجيوسياسي فيما يتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة، واستأنفت برنامجها لتخصيب اليورانيوم، ما ساهم في تعميق الخلاف بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية دعا إلى تشغيل آلية اينستكس وإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، وأضاف بالنسبة لدول الخليج مثل المملكة السعودية والإمارات المتحدة فإن ظهور إدارة أمريكية متشددة جديدة قد أتاحت فرصة طيبة لاحتواء إيران بطريقة كانت مستحيلة في عهد الرئيس السابق.
كما نشرت صحيفة أراب نيوز وهي صحيفة يومية مرتبطة بالحكومة السعودية ما قاله المحلل محمد السلمي عن ضرورة تجنب الولايات المتحدة ” التوسط مع إيران”. وكتب محمد السلمي الذي يرأس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية في الرياض قال في عموده: إن عدم وجود استجابة قوية وجادة من جانب الولايات المتحدة ساهم في استمرار إيران في عملياتها-على حد تعبيره- ، مضيفاً: إن أحد الخيارات للتعامل مع طهران سيكون بشن هجوم يتجاوز توقعات إيران من خلال عملية عسكرية وقائية، هجوم من شأنه أن يشل جميع القدرات العسكرية للنظام ويضمن عدم قدرته على الرد بكامل قوته. ورغم أن المسؤولين السعوديين لم يدعوا صراحة إلى شن حملة عسكرية ضد إيران إلا أن قادة المملكة كانوا الأقوى في إدانة ما يقولون إنه “سياسات عدوانية” لإيران.
وفي مقابلة أجراها مؤخراً مع شبكة فرانس 24 الإخبارية التي تتخذ من باريس مقراً لها رفض وزير الخارجية السعودي عادل الجبير استبعاد الرد العسكري على ما وصفه بالاستفزازات الإيرانية ومن بينها الهجمات الأخيرة بطائرات بدون طيار، وأضاف الجبير “أعتقد أنه ينبغي علينا القيام بكل ما يلزم لزيادة الضغط على إيران لتغيير سياساتها”.
على ما يبدو أن دول الخليج التي تدرك جغرافيتها وقربها من إيران والمملكة السعودية انخرطت مع طهران كجزء من استراتيجية تحوطية لموازنة ضغوط الرياض، لكن سياسة التحوط هذه كشفت عن انقسامات عميقة بين دول الخليج العربي خوفاً من حرب وشيكة قد تومض في المنطقة تهدد باشتعال نذر حرب ثالثة.