الفضاء القومي والتحدي الوجودي
يظهر الكثير من العرب وكأنهم بلا إرادة سياسية ومعدومو القدرة على الفعل تجاه ما يتهدّدهم من أخطار وجودية، على المستويين القطري والقومي، وبمواجهة التحديات التي يفرضها العالم الجديد، وتراهم جالسين على مقاعد الانتظار في الوقت الذي تتقطّع فيه أوصال هذا البلد العربي أو ذاك، وتسنّ السكاكين لتفعل فعلها في رقاب ضحايا قادمة، وغالبيتهم بين صامت وشامت ومتفرّج، أو عاجز عن الفعل، وغاب عن ذهن الكثير منهم حقيقة أن البلدان العربية تجمعها عناصر كثيرة، جغرافية وثقافية واجتماعية وتاريخية، وأنها بلدان متجاورة أشبه ما تكون بحقول القمح، فإذا ما اندلع حريق في أحدها انتشر وانتقل إليها جميعاً، إن لم يبادر الجميع في إطفائه وإخماده، وإلا سيأتي عليهم، لأن اتجاهات الريح السياسية لا يمكن التكهن أو التنبؤ بمساراتها.
مراقبة ما يجري على الساحة العربية من أحداث يكتشف أن الذين خطّطوا وعملوا على تجزئة هذه الأمة، ونجحوا في ذلك قبل مئة عام، هم ذاتهم من يعمل اليوم على الإمعان في ضربها، ومحاولة تجزئتها وتفتيتها، والتغوّل في ضرب مكوّناتها الوطنية، عبر الاستعانة بقوى الإرهاب العالمي، معززاً بخطاب يمعن في استحضار كل عوامل تفتيت وضرب الوحدة الوطنية، عبر إيحاءات بغيضة، طائفية ومذهبية وعرقية، واستدعاء غير مسبوق لكل ما طارئ سلبي في مسيرة هذه الأمة، والسبب في كل ذلك يعود لغياب الوعي بمخاطر تلك الخطابات، وتراجع الخطاب القومي الجامع، والانتماء الوطني الراسخ، المستند إلى حقيقة ألا مكان في هذا العالم إلا للتكتلات الكبرى والدولة القومية القادرة على مواجهة استحقاقات عالم ما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية المتوحشّة التي تلتهم كل ما عداها من عالم الصغار.
البحث عن إطار قومي، تحت عناوين اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية وثقافية، لم يعد ترفاً وحلماً رومانسياً بقدر ما هو حاجة وضرورة للبقاء والارتقاء في ظل التحديات التي يفرضها العالم الجديد، عالم القوة المعرفية والتقانة، واستثمار العقول والثروات الاقتصادية والبشرية، وهذا لا يتعارض إطلاقاً أو يصطدم مع حقيقة الدولة الوطنية والتنوّع الثقافي والإثني والخصوصيات التي تميّز مكوّنات المجتمعات العربية القائمة أصلاً على فكرة التنوّع، وهو حال أكثر دول وشعوب العالم، حيث الدولة الأمة نسيج نوعي قائم على التناغم والتفاعل بين كل المكوّنات، في ظل تكريس فكرة المواطنة، وسيادة القانون، واحترام التنوّع، وإعمال مفهوم الديمقراطية أسلوب حكم وحياة.
ما جرى ويجري في شمال وطننا العربي وجنوبه، شرقه وغربه، لا ينذر بالخطر، بل هو الخطر عينه الذي يتهدّد الأمن القومي العربي، المنكشف أساساً بفعل السياسات القطرية القاصرة، والاستلاب السياسي، ومصادرة الإرادة الوطنية، والقرار المستقل لمعظم الدول العربية، وتآمر بعض الأنظمة العربية على شقيقاتها، بالتنسيق مع القوى الخارجية والصهيونية، الذي وصل إلى حد الشراكة في العدوان عليها، كما جرى في سورية وليبيا واليمن، وقبل ذلك في العراق، وهنا يصبح استشعار الخطر، الذي لن يوفّر أحداً، مسألة غاية في الأهمية، ولاسيما أنه أصبح ينصب خيامه وسط أقطارنا العربية، فاستشعار الخطر ضرورة يجب أن يدركها الجميع ويحتسبوا لها، ولعل في المثال الأوروبي الدرس في ذلك، فتحت عنوان الحفاظ على الأمن القومي الأوروبي قاتلت أوروبا، شرقها وغربها، وعلى خلافاتها السياسية والأيديولوجية، ألمانيا النازية، لأنها وضعت مصالحها العليا وكياناتها القومية في المقام الأول، الأمر الذي أنقذها من خطر الرايخ الثالث والحلم الألماني.
تهافت المشاريع الخارجية على كياناتنا الوطنية، وهذا الاستهداف غير المسبوق لكل مؤسساتنا القومية، وكل من يرفع شعار العروبة والمقاومة، ولعل استهداف سورية المثال الحي على ذلك، سببه الأساسي تراجع المشروع القومي، بل غيابه، والانكفاء القطري، والتقوقّع حول الذات لجهة الخلاص الفردي، في حين أن المطلوب هو مواجهة التحدي بالتفكير الإيجابي، وهو إعادة الاعتبار للفكرة القومية، وتفعيل إطارات العمل العربي المشترك، عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وتربوياً، وتجاوز الحساسيات السياسية والعقلية المتصحّرة، والتعامل بلغة العصر ومفرداته وقاموسه السياسي، ومغادرة كل ما علق من ذهنية الماضوية والأنانية السياسية وثقافة الثأر، لأنها على قطيعة تامة مع عناوين القرن الواحد والعشرين.
د. خلف المفتاح