بوريس جونسون وثلاث علامات استفهام
باسل الشيخ محمد
ربما لم يكن في حسبان الكساندر بويس دي بيفل جونسون وهو يغادر مبنى التايمز بعد أن أقيل لتزويره اقتباساً في أحد المقالات أنه سيصبح في سدة أعلى منصب سياسي في بريطانيا بعد ثلاث وثلاثين سنة، وربما لم يكن يتخيل أثناء جلوسه على مقاعد كلية باليولحيث، درس الأدب الكلاسيكي أنه سيعمل صحفياً. أصر جونسون بعد إقالته من التايمز على العمل الصحفي فعمل في الديلي تلغراف وبروكسل وموقع سبكتيتور.
غير أنه لم يحقق في الصحافة شهرة توازي ما حققه لدى دخوله الحياة السياسية، برز اسمه بعد انتخابه نائباً عن هينلي عام 2001 بعد أن دافع عن حقوق المثليين، وبعدها بسبع سنين تمكن من هزيمة ممثل حزب العمل ليصبح محافظ لندن، ووصل إلى البرلمان نائباً عن منطقتي اوكسبريدج وساوث روزليب، غير أنه استقال من منصبه كمحافظ عام 2016.
خلال حياته الصحفية كان جونسون من أوائل المشككين بمدى نجاح الاتحاد الأوروبي، عاد وتبنى الموقف نفسه عام 2016 –في القرن التالي!!- حيث كان من أهم الشخصيات التي صوتت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
سمعنا بجونسون عند مرحلة تعيينه وزيراً للخارجية في 13 تموز 2016 غير أنه في تلك السنة جمع ما بين كونه وزيراً للخارجية وعضواً في البرلمان عن هينلي ورئيساً لتحرير مجلة سبيكتيتور. ويبدو أن شهر تموز هو شهر الحظ بالنسبة له، إذ أعلن عن رئاسته لحزب المحافظين في 23 تموز 2019.
لقطات سريعة
خلال حياته الدراسية كان جونسون يتباهى بأنه يحفظ أول مائة بيت من ملحمة الإلياذة لهوميروس، يمكن تلمس هذا الأثر الكلاسيكي في خطاباته المرتجلة التي يظهر فيه ميله نحو اللغة المستقاة من الإرث البريطاني القديم، وهو ما أثار انتقادات حول لغته التي اعتبرها البعض نزعة نحو الامبريالية البريطانية. تمتاز لغته –كما هو حال الأدب الكلاسيكي- بالميل لاستخدام الاستعارات والتشبيهات المجازية والأمثال البريطانية مع بعض من السخرية، الأمر الذي جعل من خطاباته خلال المؤتمرات السنوية لحزب المحافظين تلقى رواجاً لدى البريطانيين العاديين، إذ لا تخلو خطاباته من النكات والتعليقات الشخصية إضافة إلى حقائق غير مكتملة وأحياناً مبالغات استعراضية مضمونها غير موجود على أرض الواقع، إلى درجة جعلت سوزان مور الكاتبة في صحيفة الغارديان البريطانية تصفه بأنه “كيس الأكاذيب”.ربط هذه المبالغات بتزوير اقتباس خلال عمله الصحفي يشير إلى أنه قد يستخدم أساليب لغوية استدراراً للعاطفة، وهو الخطاب الشائع لدى أصحاب التوجه الشعبوي، وهذه النقطة هي مدخل لمقاربة عمله السياسي.
جونسون والشعبوية
اتهام آخر واجهه جونسون على لسان اندرو كوبر عضو مجلس اللوردات المنتمي لحزب المحافظين، حيث وصف جونسون بـ “الفراغ الأخلاقي والشعبوية” مضيفاً: إنه “عنصري ويحاول لفت الأنظار إليه بأي ثمن”.
ولئن كانت الشعبوية ساحة يمكن فيها لخطابات المؤثرة أن تلعب لعبتها، إلا أن تصريح جونسون بتطبيق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “باتفاقية أو بدون اتفاقية” يلمح إلى احتمالين: الأول: هو تطبيق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فعلاً بدون اتفاقية، ودخول بريطانيا في أزمات عدة نتيجة لذلك. الثاني: أن يكون هذا التصريح أقرب إلى مفرقعات إعلامية.
إلا أن الاحتمال الأول هو الأرجح، فجونسون الذي سبق له أن صرح “كنت أحكم أكبر مدينة في العالم” (أي لندن) يؤيد ما قاله الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينر “سيصبح جونسون مع ثلة من الطائشين من الساسة البريطانيين الرجل غير المسؤول الأول”. أما تصريح أحد كبار المسؤولين في بروكسل فقد وصفه بالمراهق البالغ الذي “تستطيع أن ترى الفظاعة والقسوة فيه بسهولة، بينما يصعب عليك رؤية الجمال فيه”.
نزعة جونسون الشعبوية غير المتروية التي تلعب على وتر المشاعر يمكن تطبيقها على الحادثة التالية: اقترح جونسون عندما كان محافظ لندن بناء جسر بطول 366 متراً على ضفتي نهر التايمز سيكون واحة لأهل لندن بأزهاره وأشجاره. انهار المشروع نظراً لعدم كفاءة دراسة التمويل بعد أن أعلن أنه سيكون “هدية للبريطانيين” ليتبين لاحقاً أن المشروع مكلف جداً دونما فائدة اقتصادية من أي نوع.
لكن الشعبوية والخطاب اللعب على العواطف (بما في ذلك التصريحات العصرية) ليست حكراً على جونسون، فما إن تذكر الشعبوية والخطابات الجياشة حتى يتبادر إلى الذهن اسم دونالد ترامب.
إشارات الاستفهام
نظراً للعلاقة العضوية بين حزب المحافظين البريطاني والإدارات الأمريكية ديمقراطية كانت أم جمهورية، وبأخذ عامل تحليل لغة الخطاب بين جونسون وترامب، وعلى اعتبار أن كليهما شعبوي ينتمي إلى أرضية عائلية مترفة، يغدو السؤال منقسماً إلى ثلاثة فروع بناء على هذه الاعتبارات:
– هل سيؤدي انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والحرب التجارية التي تخوضها إدارة ترامب، إلى تفكك في البنية التجارية العالمية الراهنة واستبدالها بأخرى قائمة على محاولة بروز بريطانيا وأمريكا كقطب اقتصادي يعمل بالتنسيق على محاصرة الخصوم والحلفاء معاً؟
– هل تعني التصريحات العنصرية التي ظهرت على وسائل الإعلام لترامب وجونسون أن عهداً جديداً من الاستعداء السياسي أو العسكري في طريقه إلى النشوء؟
– هل أصبح اليمين هو العقيدة السياسية السائدة في الغرب بحيث يعتبر “الآخر” إما عدواً وإما غنيمة…؟
الواقع أن كلاً من هذه الأسئلة يتطلب مقالاً مستقلاً بحد ذاته، إلا أن الواضح إلى الآن عبر تحليل الخطاب –على الأقل- أن صورة الرجل البدين ذو الشعر غير المنتظم ستظهر في مكانين على ضفتي المحيط الأطلسي، تلك الصورة ستستعدي الجميع وتبرر أفعالها بذرائع هي في حقيقتها تبرير للكذب.