أستانا.. والحاجة لاستثمار ما أُنجـــز
تنطلق اليوم الجولة الثالثة عشرة من محادثات أستانا، وذلك بعد أيام من استعادة الجيش سيطرته على بلدتي تل ملح والجبين، في ريف حماة الشمالي، وفتحه الطريق الواصلة بين السقيلبية ومحردة، وتوسيع مظلته لحماية المدنيين في قرى الغاب، التي باتت عرضة لقذائف الإرهابيين، وبشكل يومي، خلال الأسابيع الأخيرة. ورغم أن تحرير البلدتين جاء بعد فترة من المراوحة على الأرض – ما طرح الكثير من علامات الاستفهام، وأثار العديد من الأسئلة في حينه – إلا أنه أعاد تأكيد الحقائق الثابتة في الصراع مع الإرهاب وداعميه فوق الأرض السورية، والتي يأتي في مقدّمتها أنه لا هوادة مع أي شكل من التنظيمات المسلحة الخارجة على سلطة الدولة السورية، وأن أي هدوء في الميدان لا يمكن أن يكون إلا خادعاً، مهما تطاول، في مواجهتها، وهو لا يمكن أن يأخذ على الإطلاق مسمى “الهدنة”، ولا يمكن أن يتعدّى حدود “استراحة المحارب” التي تسبق المعركة التالية، علاوة على أن عملية التحرير بحد ذاتها جاءت سريعة وشبه خاطفة – وشبه قاضية – حيث استطاع شباب جيشنا وبواسله خلالها إنزال خسائر فادحة بما وصف بـ “نخبة المقاتلين” الإرهابية، المزوّدة بأحدث الأسلحة والعتاد الفتّاك، والتي استماتت الأطراف الداعمة لزجها في الخطوط الأولى، وسط بروباغاندا إعلامية غربية متعدّدة المستويات، تراوحت بين فبركة فيديو مشبوه لعميلة استخبارات كانت تتحدّث الانكليزية بلكنة أمريكية واضحة، ولكنها ترتدي زياً تقليدياً لامرأة من الأرياف السورية، لكي تسائل ترامب بشفاه معوجة: “أيها الرئيس.. متى ستتدخل!؟” (محاكاة على غاية من الإتقان والاحترافية للوحة “الصرخة” المشهورة للفنان النرويجي إدفارت مونك)، وبين إعلان صحفية إيطالية مغمورة، ومن الدرجة العاشرة إياها، عن الإضراب عن الطعام والانضمام إلى حملة “الأمعاء الخاوية” (الإصدار الجديد لما يسمى “الخوذ البيضاء”)، وذلك في إطار حملة منظّمة ومرتبة مسبقاً لـ “التضامن” مع المجموعات الإرهابية المسلّحة التي “تتعرّض للقصف” في إدلب، وبين صورة ذلك الطبيب الذي غطّاه الغبار الكثيف، ولطّخت بقع الدماء السوداء ساقه اليمنى، وكأنه يعمل في ورشة بناء، لا في مشفى هادئ ونظيف، ليس فيه ما يدل على الازدحام، ولا على الإرهاق أو التعب، كما كان ظاهراً للعيان في خلفية الصورة.
ومع أن هناك الكثير من المؤشّرات التي توحي، وكأن البعض يعاود التفتيش في “الدفاتر القديمة”، علّه يجد فيها ما يمكن أن يعينه على تجاوز المطبّات والكبوات والخسائر المتسلسلة، التي باتت الحصيلة الروتينية اليومية للجيوش الإرهابية المدعومة من أنظمة الجوار الإقليمي والمنظومة الأطلسية الصهيونية، إلا أنه من الواضح أن ميزان القوى على الأرض قد حسم نهائياً، وأن المسألة مسألة وقت بانتظار الرياضات الذهنية الأخيرة التي ستفضي، إما إلى الاعتراف بالحقائق الميدانية كحقائق نهائية ينبغي التعامل معها على هذا الأساس، أو إلى المزيد من ركوب موجات العجرفة، وتغذية الذات بالنزعات العبثية والانتحارية، والهروب إلى الأمام لكي ينغلق المأزق على كارثة معممة، كما هو حال الأردوغانية السياسية التي تدخل اليوم مرحلة احتضارها.
بهذا المعنى، تصل الأطراف المعنية إلى العاصمة الكازاخية وسط قناعة ضمنية بأن هناك حاجة ضرورية لاستثمار ما أنجز، لجهة الاتفاق على اللجنة الدستورية، والمضي قدماً في القضاء على الإرهاب، وتكريس سيادة الدولة السورية، ومن ثم معالجة بقية الملفات، بما فيها ملف المصالح الأمنية.. هذا هو المفترض! غير أن مسار أستانا يبدو مهدّداً، اليوم، بالدوران في الحلقة المفرغة التي كان سقط فيها مسار جنيف على امتداد السنوات الماضية، فأردوغان يستفيد من صفة “الضامن” التي منحته إياها تفاهمات سوتشي لكي يمارس دوراً أقل ما يقال فيه أنه تعطيلي، ومصمم خصيصاً لكي يصب في مصلحة المجموعات الإرهابية، التي باتت تحتمي بـ “مناطق خفض التصعيد”، وتوفّر لأردوغان إمكانية ممارسة اللعبة المزدوجة بالانتقال من صف إلى صف دون أدنى خشية من الملاحقة أو العقاب، وحتى من مجرد التهمة!!
صحيح أن مسار أستانا – بما فيه سوتشي – قطع شوطاً معقولاً، ولكن من الإنصاف القول أيضاً: إن بنيته الوظيفية الحالية استنفدت أغراضها ومهامها، وأن عملاً جراحياً قد يكون ضرورياً لاستعادته زخمه، وإعادة إطلاقه بقوة جديدة، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال نزع صفة “الضامن” عن “الطرف” الأردوغاني الذي تحوّل عملياً إلى قوة احتلالية “عدوة”، انقلبت على تعهداتها ونكثت بها، بل ولا تتردد في الجهر بأطماعها، على مرأى من الجميع، وانطلاقاً من انتهازية وقحة تدرك الحاجة إليها في ظروف دولية مشبعة بحمى الرهانات والتحوّلات المرتقبة، ولأن أردوغان من النوع الخطر والأحمق، فإن من الضروري إعادته إلى حجمه الطبيعي، بعيداً عن هذياناته حول ما يدعوه “منطقة آمنة” هو، وجيشه، أعجز عن إقامتها، وعن شريط حدودي هو، وميليشياته، أضعف من التلاعب به أو إعادة ترسيمه..
إن للحل في سورية استحقاقاته الملزمة، وهو ما جرى الاتفاق على “روحيته” مبدئياً.. يبقى أن من يعيش في الماضي يجب أن يبقى فيه.. بلا أسف!!.
بسام هاشم