عماد نداف يستنهض الذاكرة الدمشقية
بعد أن حكت له أمه حكاية ولم تشتر له علبة ألوان وصار كاتبا عاد عماد إلى الحكاية في مجموعته (اذكريني دائما.. حكايات مخفية في شقوق دمشقية) ليضم باقة منها، تبدأ من حكاية اذكريني دائما وصلتها بالشهيد يوسف العظمة، أو صحة نسبها إلى أبي الورد المغضوب فيما بعد، إلى زوارق من ورق مرورا بأبي الورق وحكاية قبقاب أبيه الذي احتفظت فرنسا به، إلى الموت وهو هنا حكايات كل واحدة منها قصة وجع وحرقة وألم، إن لم أقل إنها رواية الهم الإنساني منذ تفجر وعيه وراح يبحث عن عشبة الخلود.
هي نصوص عابرة للتجنيس وحكايات مخفية في شقوق جدران دمشق وصادرة ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب حديثا.
أعرف أن عماد نداف كاتب قصة قصيرة وله مجموعات مميزة، لكنني اليوم أمام حكواتي بارع لا يدعك تفلت من سطوة نصوصه، وكل نص يبعث في الرغبة لأن تتعجل ما بعده، أي أنك تدخل في شيء من إدمان الحكاية، ثم تراه يطالعك بقصة قصيرة مكتملة البناء الفني والسرد بكل جمالياته، فتعجب ولا تنكر عليه ذلك لأن الثوب الذي ترتديه الفكرة هو آخر هموم الكاتب.
ثم لابد من الحذر والحذر الشديد فعماد ليس محايدا، بل هو منحاز بكل معنى الكلمة، هو محترف في تحويل الحكاية إلى فن، لا يلوي عنق الحكاية ولا يوجهها توجيها مفضوحا، بل يعمد إلى جملة وربما كلمة وربما أكثر من جملة وفق متطلبات الفن لتغدو الحكاية نصا ذا معنى يحمل الكثير من روح عماد، ويحفل بالكثير من تجربته وهي تجربة عزلة طويلة ذات نكهة لاذعة وربما حملت من العلقم ما يجعلها لا تُنسى لولا أن عماد بروحه العظيمة أحال الحدث (عشر سنوات فقط لا غير) إلى مستودع في طيات الذاكرة يود لو عادت السنوات أو استردها من جوف الحوت ليبني عليها الكثير الكثير من الفن والإبداع..
لكل منا ذكرياته في دمشق وعنها، عن حاراتها القديمة والجديدة، عن العشوائيات فيها وكيف قامت ومن هم سكانها وربما عشاقها، ولكن قليل منا يغامر وينشر، مع أن هذا النوع من الكتابة يستهوي القارئ وربما يخرجه عنوة عن عزوفه..
في مجموعة الزميل والصديق عماد نداف نصوص ترتقي إلى أن تكون أدبا رفيعا يستحق أن يبقى في الذاكرة، ولاسيما هذه النصوص المفعمة بروح إيمانية عالية المنسوب، أو تلك التي تستنطق الياسمين والجوري وترتب حضورهما إلى جانب المنثور وغيرها من نبات الزينة في المدينة العاشقة والمعشوقة، ومثل ذلك في النصوص التي تتصل بالموت وأسئلة الوجود التي شغلت بال الكاتب فتتبع بعض الحلقات الموجعة منها، موت أبيه المبكر، وموت الجار، زيارة المقابر، إضافة إلى ما أتحفنا به عن ملك الموت وزياراته وهي أحداث دونها الكاتب بكثير من الصدقية. في نصوص ما يحمل الجانب المعرفي من غاية الأدب إذ يسرب الكاتب لقارئه معارف عن المكان أو عن مشاهير.
الدخول من أبواب دمشق السبعة، نص يحملك على جناح حروفه إلى باب توما وتلك المساءات هناك حيث دمشق كلها تتمشى، تعاين الجمال مفردات وجملا.
عند باب كيسان أو الجابية تقف في حضرة التاريخ والفتح وبهاء دمشق.
قلت إن النص عند عماد ليس مجانيا هو رسالة وقد حملت نصوصه عن الحرب التي شهد يومياتها عاملا مجدا في الإذاعة والتلفزيون الكثير من المضامين الرافضة للحرب، والداعية إلى خلاص سورية، وهذه ستبقى في الوجدان.
لقد كان شاهدا دقيق الملاحظة حتى على ماوراء قذيفة الهاون وكان لديه سؤاله الممض لماذا يستهدف القصف مكانه بعشرة قذائف؟ ولماذا الحرب بالأساس.
الجواب في حكاية جده وما دونه من كلمات خمس قبل مئة عام، أي بعد حرب “الاربعتعش” كما يسميها يلعن أبو الحرب موت وذل وجوع.
باختصار تبهرك هذه الحكايات حتى وهي تدخلك غرفة نوم الكاتب وهو يدون كوابيس زوجته أو حين يتلقى قبلات حنا مينه السبع، أما عندما يتحدث عن جورج طرابيشي فإنه كمن يتحدث عن بحر سوري متلاطم الموج وفي أحشائه الدر كامن.
المجموعة صادرة عن اتحاد الكتاب العرب في أكثر من مائتين وعشرين صفحة وهي تحمل في طياتها الكثير من النصوص الهاربة من عقم الرقابة.
رياض طبرة