واقفة وتنشط
لطالما شكّل البناء والتشييد أنموذجاً للقطاع المنفلت من عقال الضوابط القانونية منها والسوقية، لدرجة لم نعد نفهم السر في بقاء هذا المجال الاقتصادي واقفاً، لا بل منيعاً عن الأزمات وانعكاسات الظروف التي لم توفر أسواقاً عالمية لها قوتها ورصيدها، فكيف الحال بسوق ناشئ كما هو حال قطاع العقارات المحلي.
هذا الانطباع لم يتشكّل إثر تجربة أو اثنتين، فخلال عقود من العمل لم يشهد المتابع لهذا الميدان أي انتكاسة تُذكر، ما عدا بعض الاستثناءات المتعلقة باستقرار بسيط هنا وانتعاش خجول هناك، وما تبقى هو عبارة عن استثمار مكتنز يبيض ذهباً، كما يعرف المواطن الباحث عن مسكن ومعه المسؤول، وكذلك ذوو الملاءة المالية الدسمة الذين يبحثون عن توظيف مدرار لا يعرف الخسارة أبداً ولا يتعرّض للمخاطر أسوة بغيره، بل الأرباح المضاعفة هي الشعار الذي لا يحيدون عنه، ومهما اشتدت الظروف وساءت الأحوال يضمن عودة رأس المال معافى من أي ضرر، وهذا ما ألفناه منذ أن تبلور النشاط بالشكل الاستثماري المعهود.
لقد فرضت سوق العقارات نفسها لتحتل الصدارة في اهتمامات كل الشرائح، ليس من قبيل البحث عن مسكن بل ثمة إغراء حرّض وداعب طموح حتى ذوي الدخل المتوسط لدخول هذه الصيدة الثمينة لضمانتها وحصانتها من أي مخاطر، ولو كانت المسألة تتطلّب رأس مال لا يتعدى حدود المدخرات وفرص القروض والسلف إن توفرت، وهنا إن عجز الحالم بالغنى لضيق ذات الحال لا مانع من التحالف والشراكة مع ثلة من السماسرة والوسطاء وتجار العقارات ومتعهدي البناء النظامي منه والمخالف!.
والمفارقة أن ما قدمته الحكومة في زمن ما على أنه قوننة وتأطير ممنهج لسوق العقارات وما اصطلح على تسميته بالمطوّرين لم يأخذ نصيبه من التوفيق والنجاح، ليس لأن السياسة المتّبعة خاطئة بل لأن الثقافة العامة ومعها أولئك المتحكمين بهذا القطاع من الشطّار وماسكي زمام القرار والأرض معاً لم يناسبهم أن تدخل الدولة معهم كشريك يقاسمهم الأرباح الطائلة، ولهذا نرى فشلاً في مشاريع من قبيل الجمعيات السكنية وبعدها شركات البناء والسكن والإسكان، وأخيراً بدعة المطوّرين العقاريين مقابل انتشار وتفشي البناء العائد لشركات فردية أو لمتعهدين، أشخاصاً ومجموعات!.
وثمّة مفارقة أخرى قوامها السعي لضخ الرساميل في البناء، حتى لو كانت الظروف حالكة والخطورة الأمنية على أشدها، ففي الوقت الذي تجمّدت الحركة الاقتصادية وتعرّضت معظم المناشط التجارية والاستثمارية والخدمية للشلل بسبب الأحداث والتوترات، نجد أن قطاعاً واحداً لم يتعرض للخسارة وإنما إلى مزيد من الارتفاع في العقارات القائمة قبل الظروف، ومزيد من البناء الجديد الذي تسود فيه صبغة المخالفة أكثر من المرخص لأسباب معروفة للجميع!!.
جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام والتعجب القائمة على الاستغراب من فرادة وخصوصية العقارات السورية، إذ لا تتأثر ولا تنكمش ولا تخسر وهي الملاذ الآمن للرساميل وتبقى واقفة وناشطة حتى في عزّ الأزمات والحروب والنزاعات؟!!.
علي بلال قاسم