أوروبا والاستياء الصامت
منذ تولي ترامب منصبه، ارتفع منسوب الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا حول قضايا عديدة، فأوروبا لا تشعر بالقلق من تخلي الولايات المتحدة عنها فحسب، بل وأيضاً من الانجرار إلى صراعات لا تستطيع تحمّلها، ألا وهي: التصادمات بين “أمريكا أولاً”، و”التكامل الأوروبي”، والمشاعر المتناقضة بين الاعتماد الأمني، والاستقلال الاستراتيجي، والمعضلة بين الحلفاء والشركاء الاقتصاديين، والتنافس بين الأحادية والتعددية.
وبخلاف احتلال العراق عام 2003، فإن ما يقلق أوروبا لا علاقة له بإساءة استخدام الولايات المتحدة للهيمنة الإقليمية، بل من التناقضات التي تنشأ من الأنانية رغم أن الولايات المتحدة دعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى التكامل الأوروبي.
صحيح أن الولايات المتحدة تحتاج إلى أوروبا مستقرة ومزدهرة كداعم للنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، إلا أن ذلك يواجه تحديات من كلا الجانبين. فمن جهة، تفهم إدارة ترامب التكامل الأوروبي من منظور المنفعة الاقتصادية، وترامب لا يحب كفاءة الاتحاد الأوروبي المنخفضة، ويعتقد أنه تمّ تشكيل الاتحاد الأوروبي لهزيمة الولايات المتحدة في التجارة، وأنه أداة ألمانية، لذلك دعم ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وشجّع بشكل غير مباشر الشعبويين الأوروبيين.
ومن جهة ثانية، زادت واشنطن من استثماراتها في الأمن الأوروبي من خلال دعمها لمبادرة الردع الأوروبية، وتعميق التعاون العسكري مع دول وسط وشرق أوروبا مثل بولندا، ومع ذلك تربط إدارة ترامب الأمن بالضغط على الحلفاء الأوروبيين لتعزيز الإنفاق العسكري لحلف الناتو، وهو ما دفع أوروبا لتعزيز حاجتها إلى الاستقلال الاستراتيجي، واتخاذ إجراءات مثل إطلاق التعاون الهيكلي الدائم، وإنشاء صندوق الدفاع الأوروبي، رغم أنه سيكون من الصعب على أوروبا تجنّب المبالغة في رد الفعل الأمريكي والحفاظ على التحالفات.
في مجال الاقتصاد والتجارة، استخدمت الولايات المتحدة دبلوماسية قوية لتحقيق تنازلات أوروبية عبر الضغط من خلال التعريفات الجديدة. وفي الوقت نفسه، فإن أوروبا مترددة في الإضرار بجهود التعاون مع الصين وروسيا، وتأمل واشنطن أن تبذل أوروبا جهوداً في الجغرافيا السياسية من خلال مواجهة كل من بكين وموسكو، بينما لا ترغب أوروبا في المشاركة في الصراع بين القوى العظمى.
إن الأحادية الأمريكية والتعددية الأوروبية أمر واقع بدليل أن واشنطن تجاهلت مصالح أوروبا، ومن أهم الأمثلة على ذلك هو تخلي واشنطن عن الصفقة النووية مع إيران، والتهديد بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران.
في المقابل، لا تريد أوروبا انهيار الاتفاق النووي، ولا تنوي إلقاء اللوم على واشنطن، لكن هذا الاستياء الصامت يصف بشكل أفضل حالة العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا.
على الرغم من أن أوروبا والولايات المتحدة ما زالتا تعتقدان أن فوائد تحالفهما تفوق خلافاتهما، فإن التهديد المشترك الذي ربطهما ذات مرة لم يعد موجوداً، وتغيّرت اهتماماتهما وقيمهما المشتركة منذ ذلك الحين، وإذا فشلت أوروبا والولايات المتحدة في استيعاب بعضهما البعض، فإن علاقتهما قد تتراجع أكثر.
عناية ناصر