نـــوافــــذ 52
عبد الكريم النّاعم
1
الموسيقى عالَم للّواذ، كم كانت الغربة جافّة وصلبة حين لم يعد بمقدوري، لا ماديّاً، ولا نفسيّا أن أستمع إلى الموسيقى، ذات يوم وأنا أتنقّل من فضائيّة لأخرى طالعني صوت حنون، مشروخ، وهو يغنّي “السويحلي”، وكان بارعا في الأداء، شديد الحساسيّة، فلم أملك أنْ أردّ الدموع التي نفرتْ من تلك الأعماق البعيدة.
يقول أفلاطون ما معناه إذا ازدحمتْ عليك الهموم فعليك بالموسيقى، أو بالغناء الأصيل، فهو يجلو عن القلب بعض مالحق به من لواحق مُحزنة.
قد يسخر ساخر من هذا، وله أقول لو اختزنتَ منمنمات ما اختزنتُ، ولو سافرتَ في تلك الأمداء لكان لك موقف آخر، ومِن أجل أن تصل لابدّ من الدّخول في طقس الاحترام، وأن تكون مؤهَّلاً ذوقيّا لكي تصل إلى ذلك الأفق، لأنّ الأعمى لا يعرف شيئا عن فتنة الألوان، ولا الأخشَم يعرف لذّة شمّ الروائح العطرة التي تُبهج النفس. في هذا السياق أقول لمن يستمع إلى الموسيقى، وأعني الموسيقى الرّاقية، والتي لا تنحدر إلى مستوى التعبير بهزّ الوسط، أو الطرب بالأقدام، أو الزّعيق الحادّ.
من أراد أن يكون مستمعا جيدا، وجديرا، فعليه ألاّ تسرقه آلة وحدها في الأعمال السيمفونية، أو الشبيهة بها، لأنّ ذلك يكون على حساب ما تُرك من تعبير، بل المستمع الجيّد هو الذي لا تأخذه آلة وحدها، كما أنّه لا تتسرّب من سمعه أيّة آلة، وهو بذلك يُثبت أنه لائق بهذا المقام،.. استسلم لروح ما تسمع، أعط اللحظة التي أنت فيها حقّها، ولا تمزجها بغيرها فتخسر صفاء الصّرف.
2
كثيرا ما تساءلت: “من أين يأتي الشعراء المبدعون، والموسيقيّون، والفنّانون التشكيليّون، بكلّ هذا الإبداع؟!
أنا نفسي، كغيري من الشعراء كثيرا ما انتهيتُ من كتابة نصّ ثمّ عدتُ إليه ففوجئتُ ببعض الصّور والتعابير، وتساءلت مِن أين جاءت؟!
لماذا لم ينته الإبداع عبر العصور التي عرفناها، وهي عصور سحيقة في الزمن، ولماذا لا تُستنفد؟! أهو حنين الأرواح النّبيلة، وتوْقها؟! مئات الأسئلة قد تتفتّق وكلّها تُعيدك إلى نقطة البدء من أين؟ و.. كيف؟!
لقد قيل الكثير الكثير في الإبداع، وفي تعريف الشعر العصيّ على التعريف، وغالبيّة ما نعتمد عليه وصلنا من الغرب الماديّ، بحكم تفوّقه العسكري، ومدّ نفوذه النّهبوي، وهذا لا يعني أنّ ثمّة مَن هو مِن أهل تلك المدنيّة الغربيّة، قد فارق تلك التوجّهات ونهج نهجا روحيّا صوفيّا.
اسمحوا لي أن أشارككم ما لفتَني لكاتب هنديّ، في سياق الإبداع :
-الإبداع هو شذى الحريّة.
-إنّ الشخص المُبدع الخلاّق هو إنسان يتحلّى بالبصيرة، وهو الذي يمكنه أن يرى أشياء لم يرها أيّ شخص من قَبْله، ويَسمع أشياء لم يَسمعها أيّ شخص من قبْله.
-إنّ الله يوجد على مسافة قريبة من الإنسان، اسمح له بممَرّ صغير ليَعبُر من خلاله، هذا هو الإبداع، أن نسمح للّه أن يتملّكنا، الإيداع هو حالة دينية.
-ليس للإبداع أيّ علاقة بأيّ نشاط معيَّن، الرسم، الشعر، الغناء، الرّقص، كلّ نشاط يمكن أن يتحلّى بالإبداع، وأنت مَن يُضفي هذه المزيّة على النّشاط، ليس النشاط بحدّ ذاته مُبدعا أو غير مُبدع، يمكنك أن ترسم، أن تغنّي بطريقة غير مُبدِعة، كما يمكنك أن تطبخ أو تنظّف أرض المنزل بطريقة مُبدِعة، الإبداع هو توجّه داخلي، إنّه نظرتك الشخصيّة للأشياء.
لو لم أشقّ عليكم، لنقلت المزيد، ولكنْ للصفحة حدود، هذا بعض ما قاله “اوشو” الهندي.. يبدو أنّ علينا أن نُحسن الالتفات إلى الشرق، لا في التساند الاقتصادي فحسب، بل في اكتشاف أبعاده الروحيّة الهائلة.
aaalnaem@gmail.com