المعادلات السورية و”اختبار أستانا”
لم يكن لجولة “أستانا” الأخيرة، في ظل موازين القوى الراهنة، سوى أن تعيد، مرة جديدة، تظهير معادلات الحرب الدائرة في سورية وعليها، وهي معادلات يعرف الجميع أنها تنوس بين حدين، حدّ، تمثّله الدولة السورية وحلفاؤها، يطمح، قولاً وفعلاً، إلى إنهاء الحرب فوراً على قاعدة الحل السياسي السوري- السوري ووحدة الأراضي السورية كاملة، وحدّ آخر، تمثّله واشنطن وأنقرة، ومن معهما، يعلن، لفظاً، موافقته على ما سلف، لكنه يسعى فعلاً إلى إطالة زمن الحرب حتى تحقيق هدفها الأولي، وهو “الإركاع والاستتباع”، وإذا تعذّر ذلك، وهو متعذر قطعاً، فليكن الإنهاء مشروطاً بالحصول على حصة جغرافية بالنسبة للبعض، وسياسية واقتصادية بالنسبة للبعض الآخر.
ويستند الفريق الثاني في سعيه لتحقيق معادلته آنفة الذكر على ركائز محلية، مختلفة التوجّه والانتماء، أفرزتها وغذّتها وقائع الحرب وتطوراتها، وأصبح ما يربطها بفريق الحرب الخارجي من وشائج وأواصر أشبه ما يكون بعلاقات التخادم الطردية، بمعنى أنه لا وجود لأحدها بغياب الثاني، فإذا كان من الصحيح أن واشنطن مثلاً تملك أوراقاً عدة في هذه الأزمة، مثل المهجّرين وإعادة الإعمار والحصار الاقتصادي، إلا أن مثال العلاقة الطردية لا ينطبق فعلياً إلا على علاقتها مع ميليشيات “قسد”، فإذا لم تكن هذه الأخيرة تغتصب القرار المحلي شرقاً، فلن يكون هناك مقعد فاعل لواشنطن على طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية، وبالعكس لولا واشنطن لما كانت هذه الميليشيات تجرؤ على إشهار انفصاليتها بهذه الحدة والشراسة، وبالمثل لا وجود لمقعد تركي مماثل على الطاولة ذاتها إذا لم تتحقق “المنطقة الآمنة”، وتبقى إمارة “إدلب” شمالاً والعكس صحيح، وأيضاً لا وجود لتأثير “إسرائيلي” فعلي دون عودة حالة الاضطراب والفوضى إلى درعا والمنطقة الجنوبية بكاملها، والعكس أيضاً صحيح.
بهذا الإطار يكون من “الطبيعي” – وإن كان من غير المشروع – أن تؤكّد واشنطن، بحسب مبعوثها “جيمس جيفري” على أنها قد “تطبّق في شرق الفرات ما طبّقته من قبل في شمال العراق بين عامي 1991 و2005″، وبهذا الإطار أيضاً نفهم عدم ممانعتها الفعلية “للمنطقة الآمنة” التركية بشرط أن تكون بحدود وعمق لا يتعارضان مع مشروعها الخاص في الشرق، كما نفهم صراخ أردوغان الأخير مهدداً بإقامة هذه “المنطقة” بالعمق والحدود المناسبة له رغماً عن الجميع، واستمراره في محاولة شراء الوقت لترتيب أوراق “إدلب”، التي حذّرت الأمم المتحدة ذاتها من موجة إرهابية جديدة تنطلق منها، وأفغانستان، كونهما يضمان أكبر بؤرتين للمتشددين الأجانب، ومعظمهم موالون لتنظيم القاعدة، أواخر العام الحالي، وتلك قصة أخرى لازدواجية هذه “الأمم” التي تتباكى عليها في الآن ذاته، وبالإطار السابق، أيضاً وأيضاً، نفهم إعادة إحياء غرفة “الموك” جنوباً لتتشارك مع الأصابع الإسرائيلية مهمة إغراق المناطق هناك بدوامة فوضى عارمة لا سبيل للخروج منها.
ولأن ما سبق هو معادلات الآخرين وطرقهم ووسائلهم لتحقيقها، فإن “أستانا” ذاتها أصبحت هذه المرة في موضع اختبار جدي لتحقيق المعادلة السورية التي كانت سبب قيامها بداية واستمرارها حتى الآن، وكان واضحاً من مضمون بيانها الختامي الأخير، وبصورة لا تقبل اللبس، أن نجاح هذه المعادلة منوط بالتركي، كأحد الضامنين لهذا المسار، وامتحانه الأول هو في كيفية تعامله مع رفض “جبهة النصرة” الموجودة في إدلب، تحت رعايته المباشرة، لهذا البيان، ولأنه فشل سابقاً في الامتحان ذاته، ومُنح فرصة جديدة في “دورة أستانا التكميلية”، فإن الامتحان هنا لم يعد له فقط، بل أصبح أولاً، وقبل كل شيء، اختباراً لجدوى “أستانا” ذاتها، يوجب في حال الفشل التركي، أو التراخي والامتناع، وهما الأرجح والأصح، النظر جدياً في بنيتها التكوينية كاملة، وصولاً إلى حتمية إخضاع المسار كله “لعمل جراحي قد يكون ضرورياً لاستعادة زخمه، وإعادة إطلاقه بقوة جديدة”، وإلا سنعود لكتابة الكلام ذاته، ونكرر التحليل و”العتاب” نفسهما عقب الجولة القادمة.. وما بعدها أيضاً.
أحمد حسن