تغيير بنيوي بعد التصعيد الأميركي في المنطقة
ريا خوري
يعمل التصعيد الأميركي في منطقتنا العربية والإقليمية إلى خلط الأوراق المؤدِّية إلى اختلال موازين القوى الإقليمية والمؤثِّر بتداعياته على القوى الدولية، ولعلّ التحوّل الأساسي في ملامح الاستراتيجية الأميركية، بدأ بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سورية ، لكن في مضامين القرار الأميركي المُفاجئ من ناحية التوقيت والمضمون، مطبات سياسية وألغام قابلةٌ للانفجار بالاعتماد على تداعيات قرار ترامب، الذي ترك انطباعاً لدى حلفاء الولايات المتحدة أن المرحلة الأميركية المقبلة ستكون مبنية على إعادة الحسابات والتحكّم، بما يتناسب والقراءات الأميركية الجديدة حيال ملفات المنطقة، لكن الجوهري ضمن هذه التعقيدات، أن قرار ترامب بالانسحاب من سورية، والعودة عنه لم يكن إلا لإحداث خلل في المشهد السياسي في المنطقة، يُدخل أعداء الولايات المتحدة في نفق ضياع الموقف الاستراتيجي، ومن ثم بناء استراتيجية جديدة تتوافق ضمنياً مع ما تم التوصّل إليه من مُعطيات ووقائع جديدة ، لكن واقع الحال يوضّح بأن الفخّ الأميركي الذي تم زرعه في المنطقة ، قد تم التعامل معه وفق استراتيجية الاحتواء والتفكيك من قِبَل جمهورية روسيا الاتحادية والجمهورية العربية السورية وجمهورية إيران الإسلامية ، هذا الأمر كان أحد أهم أسباب التصعيد الأميركي المُعتمِد على دبلوماسية المدفع حيناً والحرب الناعمة حيناً آخر وانعكاسهما على التجاذُبات بشقّيها السياسي والعسكري، نتيجة لذلك، استمرت سياسة التصعيد الأميركي من دون الغَوْص عميقاً في تصعيد يمكن أن يؤدي إلى تطور الأوضاع نحو التصادُم العسكري، والذي بدوره سيُحدِث ارتدادات مؤثّرة على النظام العالمي الجديد.
لذلك نرى أنّ سياسة التصعيد الأميركي في منطقتنا ارتكزت في تفاصيلها على بندين رئيسَين: الأول، تزامُن إعلان ترامب الانسحاب من سورية، مع توافق حملة أميركية صهيونية خليجية جاءت تحت عنوان: ( التصدّي للنفوذ الإيراني في سورية، وعموم المنطقة). البند الثاني هو إعلان هزيمة “داعش” في العراق والشام، مع الإبقاء على موجِبات التدخّل الأميركي في المنطقة في أي وقت تشاء، والمُنطلِق من نظرية مُحاربة الإرهاب، وفي جانبٍ آخر العمل على استمرار نشاط الفكر السَلفي، بما يبرر إبقاء قواعد الإرهاب حاضِرة ومؤثّرة في الأراضي السورية والعراقية.
الواضح تماماً وضوح الشمس في ما يتعلّق بالبند الأول أن التصعيد الأميركي ضد جمهورية إيران الإسلامية ، مرتبط جوهرياً بالكيان الصهيوني، حيث أن التهديدات المُستمرّة من أعلى هرم الإدارة الأميركية ضد إيران، لها أبعاد كبيرة تتوافق حُكماً مع قضايا الابتزاز السياسي والعسكري والاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد الدول العربية، وخاصة تلك الخليجية، كل هذا من أجل الدَفع بتلك الدول لقبول مشروع صفقة القرن، والانخراط به بشكلٍ مباشرٍ وعلني ودون مواربة في حلفٍ ضد إيران، يكون الكيان الصهيوني أحد أهم أعمدته الأساسية ، لكن في مقابل التصعيد الأميركي ضد إيران، برز توجّه أوروبي واسع النطاق مُعارِض للنَهْجِ الأميركي ضد إيران، هذا الأمر مرتبط بتداعيات الخطوات الأميركية والانسحاب من الاتفاق النووي، المُتمثّلة بالبحث عن سُبُلٍ للحد من الآثار الاقتصادية جرّاء السلوك الأميركي، فالارتباطات الاقتصادية الأوروبية والخليجية مع جمهورية إيران الإسلامية ، قد تُشكِّل خرْقاً في الاستراتيجية الاقتصادية الأميركية المُعتمَدة ضد إيران، ولعلّ الولايات المتحدة استقرأت مُبكراً أن الضغط الاقتصادي قد لا يؤتي ثماره، ما دفعها لانتهاج طريق آخر وهو التلويح بالتصعيد العسكري من خلال تحريك عددٍ من القطع البحرية الأميركية التي وصلت فعلياً إلى الخليج العربي ، إضافة إلى افتعال بعض الاستفزازات المحدودة والتي جاءت كجسِّ نبضٍ عسكري، واستقراء ردود الفعل، وبالتالي فإن التهديدات الأميركية عبر الحلول العسكرية الرادِعة لإيران، غير وارِدة على الإطلَاق، لأن المنطقة برمَّتها ستكون مسرحاً لحربٍ طاحنة لا يُمكن إحصاء خسائرها الهائلة ، وفي المقابل فإن جمهورية إيران الإسلامية تحمّلت كثيراً الاستفزازات الأميركية وصبرت عليها، والتي كان آخرها احتجاز ناقلة نفط إيرانية في المياه الدولية، وعليه فإن إيران ستتحرَّك بسرعة وفق قواعد القانون الدولي، وضمن خطوات سياسية ودبلوماسية مدروسة بعناية ، لاستثمار الاستفزازات الأميركية ووضعها ضمن ضوابِط تمنع استمرار تعقيد المشهد في المنطقة العربية والإقليمية .
الجانب الثاني المُتعلِّق بإعلان هزيمة تنظيم ( داعش) الإرهابي، معناه في القاموس الأميركي البحث باستمرار عن خطرٍ استراتيجي جديدٍ يُهدِّد المنطقة، وبناءً على هذا الخطر يتمّ الاستثمار الأميركي في عدد كبير من الملفات الإقليمية والدولية، إضافة إلى إمكانية التصعيد العسكري والسياسي ضد أعداء الولايات المتحدة انطلاقاً من تهديدات طارئة ومُهدِّدة للسلم العالمي، ضمن هذه الجزئية يبدو أن إدارة ترامب قد وجدت ضالّتها في تصنيف الحرس الثوري الإيراني إضافة إلى حركة النجباء العراقية وكذا حزب الله اللبناني، على أنهم منظمات إرهابية، بغض النظر عن مُحدَّدات التصنيف الأميركي وتبعياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية الكبيرة، لكن ماهيّة الخطوة الأميركية تدخل في إطار توجيه رسائل سياسية ساخنة إلى إيران، بُغية انصياعها للقرار الأميركي من أجل التوقيع على اتفاق نووي جديد يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عرَّابه، لكن في مقابل ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة لم تقرأ جيّداً ما بين السطور الإيرانية، فالردّ الإيراني على التصنيف الأميركي يطرح العديد من الأسئلة الحرجة عن كيفية ترجمة الردّ الإيراني على الاستفزازات الأميركية المستمرّة، هذه الأسئلة بمُجمَلها تُشكِّل قلقاً للولايات المتحدة الأميركية وأدواتها الإقليمية، وعليه فإن عَجَلة الاستفزازات الأميركية، وإن كانت في دورانٍ مستمرٍ ومُتسارِعٍ، لكنه دوران يسير وفق برنامج وقواعد التهدئة التي تسيطر على مناخات الاستفزازات، فالولايات المتحدة تُدرِك بأن إيران وردودها سواء أكانت سياسية أم عسكرية، ستُشكِّل حالة مفارِقة إقليمياً في أية معادلات ناظِمة لخطوط التوازن الإقليمي ، وبالتالي فإن كل الخطط الأميركية المتبعة ضد جمهورية إيران الإسلامية يحمل أبعاداً تفاوضية دافِعة لطاولة المفاوضات، برأسين إيراني وأمريكي.
ضمن هذه المُعطيات المتوفرة، وكنتيجةٍ طبيعيةٍ ومنطقيةٍ لتصعيد الإدارة الأميركية وانعكاساته، فإن الساحة السورية بوصفها مسرحاً إقليمياً ودولياً هاماً ناظِماً وضابطاً لموازين القوى الإقليمية والدولية، تشهد ردود أفعال وتجاذُبات وتعقيدات كبيرة بين مُختلف القوى الفاعِلة في الأراضي السورية، ولعلَّ مشهد انغلاق طرائق الحلول التوافقية قد يطول ريثما توضَع المخططات النهائية لمُجمل الحلول في سورية، وعليه فإن القول بأن الولايات المتحدة تُمسِك بزِمام الأمور في سورية ، غير حقيقي ، فالخوف الأميركي من تداعيات ما يحدث في سورية ، يُبقي الولايات المتحدة على قدمٍ واحدة، فالتخوف والحَذَر من الميدان السوري وارتداداته عربياً وإقليمياً، دفع الولايات المتحدة إلى العَبَث بأوراق القوّة السورية، والمُرتبطة بشكلٍ مباشرٍ مع حلفاء سورية الرئيسيين، حيث أن روسيا وإيران ومحاولات جذبهما لكافة الأطراف المؤثّرة سياسياً وعسكرياً على الأرض السورية ، نابعة من ضرورات الابتعاد عن أية مواجهات مباشرة أو غير مباشرة تزيد الأمور تعقيداً، وبصرف النظر عن مُمارسات واشنطن تُجاه روسيا وإيران في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، إلا أن اتباع نهج الاحتواء للولايات المتحدة وتركيا والكيان الصهيوني وسياساتها، سيؤسّس للحل السياسي بشكل واسع واستبعاد جميع ما سِواه، حيث أن الجمهورية العربية السورية وحلفاءها باتوا في حُكم المُنتصرين، كما أنّ المكاسب الميدانية تنعكس بشكلٍ مباشر على الموقع التفاوضي وأوراق القوَّة، وهذا ما اعترفت به الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة بشكل علني .