المشروع النهضوي بين الحاجة والضرورة
منذ قرن ونيّف جرى الاشتغال على مشروع نهضوي عربي ينقل الأمة العربية من حالة التخلّف والشرذمة إلى حالة النهوض والوحدة، وتصدّى لبلورته كتّاب ومفكرون ومثقفون من مختلف الأقطار العربية، وتحدّدت ملامح المشروع الأمل في عناصر واضحة، من خلال التركيز على ست معضلات فرضت نفسها على الواقع العربي آنذاك، وهي: الاحتلال، التجزئة، التخلّف، الاستغلال، الاستبداد، التأخّر التاريخي، تقابلها: الوحدة، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، منظوراً إليها من زاوية ما هو حاصل في تلك المرحلة التاريخية، ولعل صياغة رؤية ذات طابع استراتيجي للتعامل مع تلك المعضلات يحتاج إلى تحديد جهد فكري استراتيجي تشارك فيه القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة على الساحة القومية، بتشكيلاتها وألوانها الأيديولوجية، على قاعدة أن ثمة قواسم مشتركة تتفق عليها، بغض النظر عن تراتبيتها كأولويات يشتغل عليها على الصعيد القومي، انطلاقاً من القناعة أن ثمة تلازماً وترابطاً يجعل من كل واحدة منها مقدّمة ضرورية تمهّد الطريق للأخرى، وتؤدي بالنتيجة للوصول إليها.
نظرة نقدية لكل أشكال عمل القوى السياسية وتياراتها المختلفة على الساحة القومية، تشير إلى حقيقة أن المواجهة والتعارض بين تلك التيارات الفكرية كان هو السمة الغالبة على أسلوب تعاطيها في إطار تشكيل قاعدة جماهيرية للاستراتيجيات والمشاريع التي طرحتها، سواء كانت التيارات القومية والليبرالية والاشتراكية، فكل واحدة منها وجدت في مشاريعها الفكرية وأيديولوجياتها الأكثر تعبيراً عن حاجات المجتمع ورغباته ومصالحه، وربما طموحاته السياسية، دون أن تلزم نفسها عناء البحث عن المشترك مع الآخر، السياسي أو الأيديولوجي، والاشتغال عليه كمشروع يبحث عن حامل اجتماعي واسع الطيف.
تحديد عناصر المشروع النهضوي المشار إليه يمكن أن يمهّد الطريق للدعوة لتشكيل كتلة تاريخية جامعة تستوعب أغلب التيارات الفكرية الفاعلة على الساحة العربية راهناً، فإذا كانت الأحزاب القومية تركّز على فكرة الدعوة للوحدة العربية، بصيغها المختلفة، وهي تمثّل الرد على التجزئة، فإن الأحزاب ذات التوجّه الاشتراكي تجد ذاتها في تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والتنمية، وكذلك هو حال التيارات والأحزاب الليبرالية، التي ترفع شعار الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، وأخيراً تجد التيارات الدينية المتنوّرة ذاتها في التركيز على هدف الحفاظ على الهوية الثقافية والروحية لشعوب المنطقة، في إطار المواجهة والعراك الثقافي الحاصل بين دعاة الأصالة والمعاصرة.
الاستقلال الوطني الناجز والتحرّر القومي، يشكّل الاستجابة الضرورية للرد على حالة الاستلاب الحاصلة على المستوى السياسي للكثير من الأنظمة العربية، وكذلك الرد على الدعوات لخرائط ضيّقة، والتي باتت هي الأخرى ظاهرة مهددة بتجزئة دون قطرية، أما الحديث عن التنمية بديل التخلّف، والعدالة الاجتماعية نقيض الاستغلال، والديمقراطية والتجدّد الحضاري بمواجهة التسلّط وانعدام الحياة الديمقراطية الحقيقية، فلا شك أنها أصبحت من بديهيات الخطاب الأيديولوجي لأغلب التيارات السياسية.
ولعل مجمل تلك الأهداف المشار إليها متكاملة يفرضها الواقع، وإن كان ثمة خطأ، فإنه حاصل في طريقة التعاطي معها كأهداف متمايزة ومنفصلة ومتعارضة، وهنا يصبح دور القوى الحاملة للمشروع النهضوي العربي تصحيحها وتصويبها، وإيجاد حالة من التنسيق والتوافق بينها والتمرحل في تحقيقها.
د. خلف المفتاح