خبز وملح
د. نضال الصالح
تختزل الأمثال الشعبية معظم جماليات البلاغة العربية، بيانها وبديعها وما ينطوي تحت عباءة كلّ منهما من ضروب التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية وسواها، ومن ذلك المثل الذي يشير إلى أبهى قيمة إنسانية لا يمكن أن تكون في أحد إلا إذا كان إنساناً بحقّ، لا محض أيّ شيء في هيئة إنسان، أي ما يكنّي عن الوفاء الذي عرّفه ابن داود الظاهريّ في الباب الخمسين من كتابه “الزهرة” بأنّه “اسمٌ للثبات على الشرائط، فكلّ مَن عقد على نفسه، أو عقدَ عليه غيره.. فثبتَ عليه ولم يزلّ عنه سُمّي موفياً، وكلّ مَن شرطَ على نفسه شرطاً وزال عنه سُمّي غادراً”.
الوفاء، أو حسب المثل الشعبي الذي يكنّي عن الخبز والملح بين اثنين، فلا يخون أحدهما الآخر بعدهما، ولا يطعنه، ولا يغدر به، إحدى أبرز القيم الكثيرة التي افتخرت العرب بها في تاريخها، وضربت الأمثال في مجالها، وذكرت العلامات الإنسانية الدالّة عليها، ومن ذلك: “أوفى من فكيهة”، و”أوفى من أمّ جميل”، و”أوفى من السموأل”، و”أوفى من الحارث بن عُباد”.
في “الرسائل السياسية” للجاحظ أنّ العرب كانت تقول: “لم يغدر غادرٌ قطّ إلا لصغر همّته عن الوفاء”، ومن بديع ما حكى ابن قتيبة في “عيون الأخبار” في هذا المجال، كما حكاه ابن الجوزي في “عيون الحكايات” أنّ أردشير، أحد أبرز ملوك الفرس في القرن الثالث للميلاد، سار إلى الحضر، مدينة في أعالي العراق، فحاصرها زماناً، ولم يجد إلى احتلالها سبيلاً، حتى رقيت ابنة ملكها يوماً أحد حصونها، فرأته، وعشقته، ثمّ نزلت من الحصن، فأخذت نشّابة وكتبت عليها: “إن أنتَ شرطت لي أن تتزوّجني دللتك على موضع تفتتح منه هذه المدينة بأيسر حيلة وأخف مؤونة”، ثم رمت بالنّشابة نحو أردشير، فكتب الجواب في نشّابة: “لكِ الوفاء بما سألتِ”، ثم ألقاها إليها، فكتبت إليه تدلّه على الموضع، فمضى أردشير إليه، فافتتح المدينة، ودخلها هو وجنوده، وقتل ملكها، وتزوج ابنته تلك، وبينما هي ذات ليلة على فراشه أنكرتْ مكانها، أي استخشنته، حتى سهرت لذلك عامّة ليلتها، فنظروا في الفراش، فوجدوا تحت المحبس، أي اللحاف الرقيق الذي يوضع فوق الفراش، ورقة من ورق الآس قد أثّرت في جلدها، فسألها أردشير عند ذلك عما كان أبوها يغذوها به، فقالت: “كان أكثر غذائي الشّهد والزّبد والمخّ”، فقال أردشير: “ما أحدٌ ببالغ لك في الحِبَاء (العطاء) والإكرام مبلغ أبيك، ولئن كان جزاؤه عندك على جهد إحسانه مع لطف قرابته وعظم حقّه جهد إساءتك، ما أنا بآمن لمثله منكِ”، ثم أمر بأن تُعقد قرونها بذنب فرس شديد المراح، جموح، ثم يجري، ففعل ذلك حتى تمزقت عضواً عضواً. وبعد، فما أبهى علاقة الجدل التي أقامها الشاعر أبو تمّام بين الحرّ والوفيّ، نقيض العبد والغادر، فقال:
رأيتُ الحرَّ يجتنبُ المخازي
ويحميه عن الغدر الوفاءُ
إذا لم تخشَ عاقبة الليالي
ولم تستحي فاصنعْ ما تشاءُ