كــــاد أن يكـــــون رســـولا
الإمبراطورية اليابانية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة تماما، بخسارات مادية باهظة جدا بمختلف ما تعنيه الكلمة من معنى: “بنية تحتية محطمة عن بكرة أبيها، مصانع، معامل مشلولة لا تحصى، يد عاملة تفحمت بالـ “ليتل بوي”، جامعات، مدارس، جيش، وغيرها”، عندما قررت أنها تريد العمل للبناء فورا، كان أول قطاع توجه فيه حكماؤها ليجعلوه المتصدر الأول لكافة القطاعات الضرورية جدا في البلاد، هو قطاع التعليم، وتم اعتبار راتب المعلم هو الأعلى بين بقية رواتب القطاعات الأخرى، فهي تدرك بحكمائها أولا وبتجربتها قبل كل شيء آخر، أن العلم هو الأهم في هذه الفترة إن أردنا بناء الوطن، وهذا ما حصل، لتكون اليابان بعد عقود قليلة واحدة من أقوى اقتصادات العالم، وقطاع التعليم ما زال حتى اللحظة في كوكب اليابان مقدسا، فالمعلم يجب أن لا يحتاج أي شيء مقابل ما يقدمه من عظيم خدمة للأمة، سواء كان على رأس عمله، أم تقاعد، وها هي نتائج ذاك القرار الحكيم، يراها العالم في اليابان، ومن بعض جوانبها، أن اغلب الناس لا يثقون بصناعة أخرى مهما كان منشأها، أكثر من ثقتهم في الصناعة اليابانية، حتى صارت كلمة ياباني تعني الدقة في العمل، أي على العكس تماما مما كانت تعنيه الجملة الشهيرة “ميد إن تشينا”.
في حوار رائق رغم مشقته، دار مع المعلم المحترم محمد هشام السبسبي في سيارة الأجرة التي يعمل عليها، أخبرني أنه كان معلما لمدة 44 عاما في سلك التربية والتعليم، وهو منذ عام 2013 أي بعد تقاعده، بدأ بالعمل على واحدة من سيارات الأجرة، وبعد مشادة كلامية حول الأجرة التي يريد طالما أن الأمور في هذا الشأن يحكمها المزاج الشخصي لا القانوني، طلب رقما من المال، وجدته مبالغ فيه، طلبت إليه أن يقوم بتشغيل العداد بنور الله، الرجل تحشرج صوته، قبل أن يُخرج بطاقة من جيبه، تفيد بكونه معلما منذ نصف قرن تقريبا، والرجل الذي ربى أجيالا على العلم والأخلاق والفضيلة، لا يكفيه راتبه التقاعدي لأكثر من بضعة أيام، وهو مضطر للعمل أو يموت وأسرته من الجوع.
لم أعرف كيف أداري وجهي خجلا من قيمته النبيلة، المعلم “محمد”، يُفرق بشدة بين المعلم والأستاذ قائلا: أنا معلم ولست أستاذا، المعلم لا يترك ما يفيد طلابه إلا ويقدمه لهم، بينما الأستاذ عموما ليس هكذا خصوصا الآن، فكما هو معروف بات اليوم، الأساتذة لا يعطون في المدارس الحكومية التي يعملون بها، ربع المعلومات التي يجب أن يقدموها لطلابهم فيها، تاركين هذا الموضع لكسر كاهل العائلة السورية، التي تريد أن تربي أبناءها على العلم والعمل في بلدها لا في الخارج، حتى لو قطعت عن نفسها بسبب تأمين أجرة الدروس الخصوصية القاصمة للظهر.
قارن المعلم محمد بين التدريس اليوم وتدريس الأمس، فأجاب: اعتقد أننا رأينا الفجائع الكارثية التي حلت على من لم يستطع أهله متابعة تعليمه، فذهب إلى الشارع ليتعلم منه ولكن بدمه، وهذا ما سنحصده بل أكثر إن بقي حال هذا القطاع الأهم على ما هو عليه.
المعلم محمد لا يشكو من كونه يعمل سائقا: العمل ليس عيبا يا عم، ولكن هل تعلم أن رواتب المعلمين المتقاعدين هي من أقل الأجور عندنا؟
ماذا يمكن أن يُقال في موقف كهذا؟ أين كل أشعارنا وقصائدنا ووعينا عن قيمة المعلم “كاد المعلم أن يكون رسولا”، يبدو أنها ليست إلا شعارات هي الأخرى، طلب المعلم محمد أن ننقل وجعه ومن مثله، قالها بلطف وهو يضحك بأبوة، ليردفها بقوله: إن كنتم تشتغلون في الصحافة، لماذا لا تكتبون عما يجري؟ تكلموا عن أهمية العلم وماذا يمكن له أن يعمل، تكلموا عن الأستاذ الذي لا يكفيه راتبه فصار يحتال على الحياة بقصص عديدة منها قصة الدروس الخصوصية مرتفعة الأجر، تكلموا عن المدارس الخصوصية التي أخذت معظم المعلمين الجيدين من المدارس الحكومية، وقامت بإعطائهم أجورا جيدة، بحيث لا يحتاجون إلا أن يقوموا بالعملية التعليمية على أكمل وجه، وأغلب أولئك المعلمون، هم من النخبة في التعليم، تركوا التعليم الحكومي ببساطة فهبط مستواه للدرجة المخيفة التي أعلنتها إحدى الدراسات عن التعليم في البلاد، وكان من الضروري منع هذه الحال التي أضعفت التعليم في مدارسنا وجامعاتنا الحكومية، وذلك برفع أجر المعلم، ليكون معلما حقا لا “ملقنا” بلا روح حسب المعلم محمد.
المعلم الستيني الذي يجلس خلف مقود سيارة أجرة يعمل عليها 10 ساعات يوميا في كل الظروف، ليستطيع الحياة وأسرته، والغريب أن كل القهر الذي خرج من محياه، لم يجعل الابتسامة الطيبة تفارق وجهه.
تمّام علي بركات