أساطير الشرق العربي القديم وبنيتها الفلسفية
شغلت أساطير الشرق العربي القديم حيزا واسعا من اهتمام المؤرخين والباحثين في العالم ويعود جانب من ذلك الاهتمام إلى تداخل أو تناص العديد من هذه “الميثولوجيا” بالنصوص الدينية القديمة. وقد حققت ترجمة العديد من الرقم المكتشفة نقلة نوعية في فهم علاقة الإنسان بالغيبيات وأسئلة الوجود.
ضمن هذا الموضوع كان نشاط الجمعية التاريخية في حمص لهذا الأسبوع حيث قدم د. باسم جبور المتخصص باللغات القديمة (الأكادية، والآرامية، والسريانية، والفينيقية والعبرية) محاضرة بعنوان “الأساطير في المشرق العربي القديم” لكنه وضمن هذا العنوان الشامل والمتشعب خصص حديثه عن بلاد الرافدين المنبع الأول لأساطير الشرق، واستهلها بلمحة عن نشأة الكتابة في تلك البقعة الجغرافية الممتدة ما بين نهري دجلة والفرات، وتعود تلك النشأة إلى النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، وجاءت تلبية لحاجات الإنسان الرافدي لاسيما الاقتصادية في حينها، لذلك أصبحت الكتابة هي الحد الفاصل ما بين عصرين أساسيين هما ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ، وكان المعبد هو مكان ولادة الكتابة والمدرسة الأولى لما يمثله من رمز متكامل إداريا واجتماعيا واقتصاديا، وكان الكاهن صلة الوصل بين القيادة والرعية، فقد جمع سلطة إدارية ودينية وسياسية في آن معا. أمثال نرام سين حفيد شاروكن أو “سرجون” الأكادي.
ولم تبق الكتابة محصورة بالأغراض الاقتصادية فقط بل سرعان ما تطور دورها ليشمل الشؤون الحياتية الأخرى، وانصرف الكتاب الأولون لتدوين التراث الشعبي المتناقل شفهيا وخاصة المتعلق في أمور الخلق والآلهة وتنظيم الحياة الذي كان يرتل في احتفالات القدماء وأعيادهم المقدسة.
وتطورت المدارس وتعددت الكتابات، وثمة نص سومري يتحدث عن المدرسة فيقول: “بيت كشمس مشرقة في أعلاها، كقمر منير في أسفله، بيت كجبل في أعلاه، كمنبع في أسفله”. وكان للمعلم دورا رائدا في المجتمع الرافدي، واحتراما خاصا، وهناك نص سومري يتحدث عن ذلك “أيها المعلم، أيها الرب الذي يخلق البشرية، أنت إلهي حقا وقد كنت جروا صغيرا وأنت فتحت عيني وجعلتني إنسانا..”
وفي ظل تسارع نمو المدارس نشأ الأدب الرافدي والشرقي عموما وبات سفرا للمشاعر الروحية وسجلا للأفكار الدينية، وقد دونت معتقدات الإنسان ونظرته إلى الكون والآلهة وبطولاته وتفاصيل حياته التي لا تخرج عن ثنائية أساسية هي الإنسان والآلهة التي تفرعت عنها ثنائيات عديدة مثل الحياة والموت، الثواب والعقاب، الخير والشر، الليل والنهار، الخصب والقحط، وغيرها من ثنائيات فلسفية. وكانت الأساطير من أهم ما ابتدعه الإنسان الرافدي القديم المرتبطة بقضايا شغلت باله ولم يجد تفسيرا منطقيا لها، فبناها بنية أدبية أسطورية، وأهمها أسطورة الخلق البابلية “إينوما إيش” التي تتحدث عن صراع الآلهة الشابة والآلهة الكهلة بين تنامات ومردوخ، وأسطورة إنانا التي تعرف بإسم عشتار في التراث الأكادي والآشوري ونزولها إلى العالم السفلي للبحث عن حبيبها دموزي “تموز”، وأسطورة إيتانا الذي صعد إلى السماء لإحضار نبتة الإنجاب من عند اوتو إله الشمس، وأسطورة الصياد، وأسطورة جلجامش الشهيرة ورحلة البحث عن الخلود، وملحمة أيوب البابلي الرجل الذي لم تثنه كل المصائب والأحداث التي مر بها عن تعبده، وثمة أساطير كثيرة عن الملوك الرافديين ولاسيما سيرة شاروكن الأكادي الذاتية التي تقول: “أنا شاروكن الأكادي والدتي كاهنة، ولدت من الخطيئة، وتداركا للفضيحة وضعتني أمي في سلة ورمتني في النهر، ثم تلقاني البستاني آكي ورباني عنده، وعملت بستانيا، ثم استطعت أن أسود العالم، وحكمت 56 سنة” وهذه الحكاية محفوظة في متحف اللوفر الفرنسي بنسختها الأساسية. وهناك سير أخرى مثل سيرة شار القاري وتعني ملك المعركة، وأيضا ملحمة نبوخذ نصر وأسطورة عفوك يا مردوخ التي تحكي عن عظمة الإله مردوخ واستعادة نبوخذ نصر تمثاله المنهوب. وأسطورة نارام سين وندمه واعتزاله للحرب.
وركز د. جبور على أسطورة الخلق والطوفان النص البابلي الذي يعود إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد وله تسمية سومرية قديمة غير مكتملة تتألف من ثلاثة رقم طينية في ١٢٤٥ سطرا بابليا موجودة في المتحف البريطاني وبعض حفرها الأخرى موجودة في متحف فينيس. وهي أسطورة رائعة تصور صراع الخير والشر بين الآلهة، وزاوجت بين فكرتي البقاء والفناء وجعلت كل منهما ناتجا عن الآخر، وقدم د. جبور ترجمته الخاصة لبعض نصوص الأسطورة المأخوذة عن النص الأصلي وليس عن ترجمات أخرى، وختم الأمسية التاريخية بعرض فيلم وثائقي قصير أعدته إحدى طالباته ويصور عددا من الرقم المكتشفة وترجمتها العربية.
آصف إبراهيم