التفاهة تفوز
ليس سهلا على الأجيال الناشئة، هذا الخواء في المشهد الفكري المحلي والعربي بل وفي القارة العجوز التي يبدو أنها توقفت عن تصدير الفكر تماما، وهي حسب نظرية ابن خلدون-1332-1406-في نشوء الأمم وقيام الحضارات، في الطور الأخير من أطوارها، وهذا حاصل على واقعها، ليس فقط في النظرية، فلم يحدث أن كان هذا المشهد أي الفكري بمختلف أنواعه في مراحل سابقة ليست بالبعيدة، قاحلا كصحراء من ملح، كما هو الحال اليوم، وما يوجد أمام هذه الأجيال من مفكرين وأهل رأي وأصحاب علم، هو السيد غوغل، وما على تلك الأجيال التي لم يساهم أجدادها، لا في صناعة هذا العالم الرقمي، ولا حتى بمعرفة تطويعه لنهضتهم، إلا أن تسأل والعم غوغل يجيب.
في نظرة عامة على المشهد الفكري العربي عموما، سنرى أنه توقف نسبيا مع أفول العصر العباسي، وما جاء بعده من انقطاع في الموروث الفكري العربي، الذي كان الشعر أهم حوامله، منذ تلك الفترة، حتى بداية التحرر من الاستعمار العثماني بداية القرن العشرين، وما جرى بعدها من انفتاح على ثقافة الغرب، الذي اضطر إلى العودة عندما شعر بالوهن إلى أهم عناصر قوته، فوجدها في العصور القديمة، تلك التي وقف فيها فلاسفة وقامات فكرية من أمثال أفلاطون وسقراط وأرسطو وغيرهم، أما لدينا فلم يكن لنا أن نذهب نحو ما ذهب الغرب عموما لوصل ما انقطع بينه وبين أجداده من حبال الفكر والعلم، رغم عودة المشهد الشعري الجاهلي بشكل قصيدة العمود مع العديد من شعراء تلك المرحلة، حتى في بعض أهم موضوعاتها الكلاسيكية، كالقدح والمدح، لكن هذا لن يستمر، وستبدأ الترجمات الشعرية للأدب الغربي، تلك التي قام بها العديد من الشعراء والمترجمين، بالتأثير وبشكل ضاغط على النسق الثقافي العربي، العائد بواحد من أهم أشكال أعمدة قوته –الشعر-، والعمل تحت مظلة الحداثة على نسفه، دون أن ينتبه من تصدر لهذه المهمة، أن هذا الأدب أي الغربي، تم إنجازه بعد أن ارست الثورة الصناعية الأوروبية دعائمها، وكان ما ظهر مما ظهر حينها، الأدب العدمي كما قدمه سارتر وألبير كامو وكُتاب آخرين كانت لهم الريادة حينها، لا في بلدانهم، حيث لم يكن يعرف سارتر الكثير الفرنسيين، بل عند من خلب لبهم هذا العدم ووجدوا في ضالتهم، ولتصبح العدمية في الأدب، من أكثر المدارس سيطرة على ما يتم تقديمه للقارئ العربي في الجرائد والمجلات الثقافية، خصوصا بعد أن ادركت معظم الدول العربية استقلالها الشكلي، وصار للأدب نجوم ورواد “عدّميون”، كان بلاءهم قد حل في العراق أولا المحكوم بقبضات الجنرالات الانجليز، لينتقل بعدها يشكل طبيعي وتدريجي لباقي المنطقة العربية منتصف القرن العشرين، وليستمر بعد تلك المرحلة التي دامت قرابة العقدين، اجترار لم ينتهي حتى اللحظة لنتاج تلك المرحلة بغض النظر عن سويته، حتى في استخدام مواقع التواصل، سيلاحظ المتتبع للحال الفكري عموما، أن الاجترار هو الميزة الأكثر وضوحا بالنسبة للنسق الفكري العربي.
خلو المشهد العربي الفكري بهذا الشكل من قامات فكرية، سيكون له تأثيره السلبي الكبير على تلك الأجيال، فلا “كبير” لها كما يُقال، عدا عن كون وجدانها العام، تشكل والحرب تحت الرايات الدينية المتناحرة، هي المسيطرة العام على مفردات هذا المشهد.
اليوم التفاهة تفوز على أي فكر، ولسوف تحصد كلمة بلا معنى قالتها إحدى (نجمات) الميديا أو (نجومها)، ذهول وعقول مجتمعات بأكملها، ولو وقف في كفة الميزان الأخرى –في حال المقارنة-كل المفكرون والكتاب والشعراء والفلاسفة، منذ عهد آدم وما يعنيه رمزيا قتل قابيل لهابيل من انتقال من المرحلة الرعوية إلى المرحلة الزراعية، حتى اللحظة.
تمّام علي بركات