أوروبا بين النزعة الوطنية وشخصنة الأحزاب
عناية ناصر
تدمر أوروبا الحديثة صورتها التي أنشأتها حول رابطة سياسية يتم من خلالها حل القضايا الرئيسية ليس من خلال صفقات الغرف الخلفية ولكن من خلال إجراءات ديمقراطية مفتوحة. بعد انتخابات أيار للبرلمان الأوروبي، بدأ قادة الاتحاد الأوروبي في اختيار المرشحين لشغل المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي، وكان من الواضح أن لا أحد يتوقع منهم أن يسترشدوا بمصالح المجتمع بدلاً من مصالحهم الشخصية أو الوطنية. لكن طغيان الطموح الشخصي لـ أنجيلا ميركل، وإيمانويل ماكرون وغيرهم فاجأ حتى المراقبين الأكثر سذاجة.
ونتيجة لهذه الانتخابات، فقد تكون نخب جديدة من قادة الاتحاد الأوروبي من سياسيين في المستويين الثاني والثالث، والذين يعرف عنهم قربهم من القادة الوطنيين أكثر من الإنجازات الحقيقية أو الأفكار الشاملة، ورغم ذلك لم تكن هناك أسباب حقيقية لتوقع شيء مختلف.
أوروبا الحديثة هي نظام سياسي جامد إلى حد ما، خاصة من خلال معايير هذا العصر، لأن السياسة العالمية تتطلب شخصيات أكثر حيوية في المناصب القيادية العالمية مثل فلاديمير بوتين ، دونالد ترامب ، شي جين بينغ أو ناريندرا مودي. لكن الزعماء الأوروبيون يجسدون مرحلة العرقلة والتي هي نموذج لموقف أوروبا تجاه المتطلبات الحقيقية للبيئة السياسية والاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نتائج عملية التفاوض تبقي الزعماء الوطنيين في أدوارهم كلاعبين سياسيين بارزين في أوروبا، الأمر الذي سيعيق تطوير مؤسسات التكامل الأوروبية في المستقبل المنظور.
تمثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي يبدو أنه لا يمكن تعويضها، رمزاً حيوياً لعدم إدراك أوروبا للواقع، والتي تلتزم حتى بعد صدمة ماي باستراتيجية حل المشكلات التي تركز على تجاهل المشكلة. إن التقليل من أهمية رؤساء المؤسسات الأوروبية وقربهم من القادة الوطنيين يجعل من الممكن اختيار مرشحين لهذه المناصب بناءً على المصالح الوطنية والمساومة بدلاً من الكفاءة المهنية. في هذه العملية، يتم تجاهل أن أي فشل من جانب هؤلاء يصبح حتماً فشل لأصحاب الثقل الذين يدعمونهم. وهو ما جرى في حالة ميركل التي تمسكت بترشيح وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لين لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية، رغم أن السيدة لين ليست معروفة كثيراً في الساحتين الدولية والأوروبية.
وكالعادة، واجه قادة دول الاتحاد الأوروبي معضلة الاختيار بين المصالح الأوروبية الوطنية والمصالح الأوروبية العامة. كان عليهم أن يعملوا في ظل ضغط شديد من الداخل بسبب النتائج الانتخابية في دول الاتحاد الأوروبي الكبيرة على خلفية العديد من الأزمات في السنوات القليلة الماضية. وبغض النظر عن مدى أهمية الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، وبصرف النظر عن أهميتها الرمزية أو العملية، فإن الوضع على المستوى الوطني لا يزال أكثر أهمية بالنسبة لمصير المشروع الأوروبي الكبير.
ليس من المستغرب إذن أن يكون النهج المتبع لتعيين بيروقراطيين أوروبيين رئيسيين استراتيجياً سائداً في النهج الأوروبي، لكن واقع الحال فقد كانت النتيجة صفقة شاملة لمجموعة من دول أوروبا الغربية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث تم تقسيم المناصب الرئيسية بين فرنسا وألمانيا فيما بينهما، بينما شغلت الأخرى من قبل شخصيات مناسبة لقادة الكيانات المسيطرة. هكذا تم إتمام نظام القيادة في دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، والذي تبلور خلال فترة أزمة منطقة اليورو في 2009-2015. وما يزال ينمو بشكل أقوى.
في السنوات القليلة الماضية ، تم ربط الضعف النسبي للمؤسسات الأوروبية بحقيقة أنها يرأسها ممثلون من دول المستوى الثاني (لوكسمبورغ وبولندا وإيطاليا) ، بينما وضعت ألمانيا وفرنسا الآن ممثليهما المباشرين على رأس المفوضية والمجلس والبنك المركزي الأوروبي في مؤشر واضح أن ممثلي الطبقة الأولى اعتمدوا على قادتهم الوطنيين. والنتيجة المهمة الأخرى لعملية التفاوض في الأسابيع القليلة الماضية هي الهزيمة المؤسسية والسياسية لما يسمى بـ “أوروبا الجديدة” والتي لم يحصل ممثلوها على مكانة عالية في الاتحاد الأوروبي.
بشكل عام، فإن نتائج الانتخابات الأوروبية تشكك في أساس فكرة التوازن المؤسسي في نموذجها التقليدي. ويُظهر التراجع الجذري الواضح في مستوى الاستقلال السياسي لتلك التي احتلت مناصب قيادية في الاتحاد الأوروبي انزياح مركز ثقل نظام صنع القرار بأكمله في الاتحاد الأوروبي تجاه المجلس الأوروبي، ولا سيما مؤتمر رؤساء الدول والحكومات الذي عقد خلف الأبواب المغلقة ودون اشراك مؤسسات الاتحاد الأوروبي مثل المفوضية أو البرلمان كقوى مستقلة نسبياً. فقد أظهرت القرارات النهائية التي اتخذت أن الآراء السياسية تتراجع إلى الخلفية مقارنة بالمصالح والطموحات الشخصية. كانت العديد من المناقشات في الأسابيع الماضية تدور حول تمثيل أطراف معينة في هيئات الاتحاد الأوروبي البارزة ، ونتيجة لذلك ، أيد الزعماء تعيين مرشحين، الذين لم يكونوا “مرشحيهم” وفقاً للانتماء الحزبي، ولكن لما يناسبهم شخصياً.
رسمياً، كانت “الصفقة” بدافع الحاجة لقادة الاتحاد الأوروبي للموافقة على المرشحين للمناصب الرئيسية قبل أن يبدأ الفريق البرلمان الأوروبي الجديد العمل. وهكذا، فإن القرارات المعتمدة انتصار للبراغماتية السياسية على مصالح تعميق التكامل وتعزيز مؤسسات أقوى، وعلى رأسها المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي. ونتيجة لذلك، سوف تضطر أوروبا في السنوات الخمس القادمة إلى التعامل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي برئاسة ضعيفة، مع استثناء “سلالة” شارل ميشيل، من سياسيين كبار في السن يعتمدون بالكامل على زعماء بلادهم.
تلفت هذه الحقيقة الانتباه إلى مشكلتين أساسيتين على الأقل في أوروبا الحديثة. الأولى، اعتماد القدرة القانونية للاتحاد الأوروبي على الصفات الشخصية لرؤساء دول الاتحاد الأوروبي الكبرى. والمشكلة الأكبر هي عدم وجود شرط واضح لأوروبا قوية نيابة عن الناس ومجتمع الأعمال وكذلك استنفاد آلية للقيام بمثل هذا الشرط.
لقد تم تحضير الإنجاز التاريخي في التكامل الأوروبي في الثمانينيات والتسعينيات من خلال موجة قوية من الدعوات المقدمة من الشركات الأوروبية والمؤسسات العامة، ولم توافق النخبة السياسية في دول الاتحاد الأوروبي إلاّ بالكاد على تقييد صلاحياتها لصالح بروكسل، ولم يتم قبول ذلك إلا بسبب ضغط من الشارع، وقد أدى ذلك إلى اعتماد وثائق متقدمة مثل القانون الأوروبي الموحد لعام 1956، ومعاهدة ماستريخت لعام 1992.
وحتى الآن لا توجد علامات على مثل هذا الضغط الشعبي، فالأوروبيون إما راضون عن مواقفهم أو أنهم يبحثون عن حل على المستوى الوطني. وتظهر التجربة التاريخية أن مثل هذه الحلول لن تسهل بالضرورة الوحدة الأوروبية، ومن المحتمل أن يكون الأمر عكس ذلك وبالتالي قد تشمل عواقبها المدمرة نطاقًا كبيراً لدرجة أنه لن يكون من الممكن إلقاء اللوم على تآكل التكامل الأوروبي على الأنشطة الهدامة للقوى الخارجية.