سورية تمسك بمفاصل الحل السياسي
ريا خوري
لم تتحقّق الأهداف الأمريكية بكامل أجندتها وخططها المرسومة في سورية، وخاصة فيما شهدته الساحة العسكرية من عمليات نوعية وشاملة ضد الإرهابيين وداعميهم، فكان من أبرز معالم المشهد السياسي والعسكري في سورية، ما حقّقه الجيش العربي السوري على أرض المعركة، بمساندة ودعم من القوة العسكرية الروسية، حيث حُسمت العديد من الملفات المرتبطة بأبجديات وأسس الصراع على سورية الموقع الجيواستراتيجي المهمّ، والدور الإقليمي الفاعل على الأرض، بينما الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد رسمت خطوطاً سياسية إستراتيجية وتكتيكية بعدما خسرت أوراق قوتها العسكرية في الميدان، من أجل إبقاء المبررات التي تُتيح لها إطالة أمد وجود قواتها العسكرية والذين يعملون كمرتزقة تحت جناحهم في سورية، وما بين الجيش العربي السوري وحلفائه وانتصاراتهم ذات الأبعاد الإقليمية المهمة، وتدخلات الولايات المتحدة الأمريكية الهادفة لإخراج سورية من دائرة التأثير الإقليمي الكبير، وهنا يكمن جوهر الصراع الاستراتيجي في سورية وعليها.
وسط المواقف والتعقيدات الجيوسياسية الخطيرة في سورية، تتأرجح كتلة من التباينات والمواجهات السياسية المحتملة بين جمهورية روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإنّ الصراع الاستراتيجي المُحتدم بين القوى الفاعلة على الأرض في سورية، يأتي ضمن إطار البحث عن مكامن القوة، لبناء تحالفات وتفاهمات تتجاوز في أبعادها الاصطفافات الظرفية والتحالفات الآنية المؤقتة التي أفرزتها نتائج الميدان العسكري والسياسي السوري.
من هنا كانت الوقائع تُنذر بحدوث تصدعات واختراقات بالجملة في جزئيات المعادلات الناظمة للصراع السياسي والعسكري والأمني في الجغرافية السورية، وعلى النسق نفسه في بنية العلاقات الدولية بشكل عام، حيث يجري إخفاء العديد من الملفات وتجاهل عدد كبير منها في الصراعات الإقليمية والدولية، بُغية الوصول إلى صيغ تتشارك فيها الأطراف تجنباً لأي اصطدام عسكري في الميدان، فالثابت لدى القيادة الروسية والإدارة الأمريكية أنّ مَن يملك القوة الفاعلة ويجيد إدارتها بكفاءة وفاعلية عالية، يستطيع حُكماً السيطرة على أوراق القوة سواء أكانت سياسية أم عسكرية أو أمنية، والواضح تماماً أن التوصيف السابق يرجح لمصلحة جمهورية روسيا الاتحادية، فالسيطرة على الأرض وفي الميدان تمنح القوة السياسية لفرض الوقائع بناء على معطيات الميدان، بينما الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تسعى بكل ماتملك من إمكانيات ضمن سياسة المناورة والالتفاف واللعب من خلال الباب الموارب على المتناقضات والخلافات، إلى التفنن باللعب بالملفات وأوراق القوة التي حقّقها الجيش العربي السوري، وبالتالي كان لزاماً على موسكو احتواء حالة التردّد والخبث الأمريكي في الملف السوري، من أجل استكمال المسارات السياسية والعسكرية والأمنية، والتي باتت القيادة الأمريكية تمثِّل عقبة رئيسية في طريق تنفيذها على أرض الواقع، حيث إن سنوات الحرب على بلدنا الغالي سورية وضمن تفاصيل يومياتها، كان التنافس الروسي الأمريكي على فرض الوقائع السياسية والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنتائج الميدانية، أبرز معالم الوضع السياسي والعسكري والأمني، مع العلم أن ما حقّقه جيشنا العربي السوري على أرض المعركة من انتصارات، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني الاستراتيجي مع جمهورية روسيا الاتحادية، هو الذي أوجد وقائع جديدة ميدانية كان لها استتباعاتها السياسية وتداعياتها الدولية.
كان الدخول الروسي على خط مكافحة الارهاب في سورية متوافقاً مع جُملة الخطط والأهداف التي تركزت على إيجاد صيغة جديدة لإدارة الصراع، فالقوة الروسية العسكرية والسياسية والدبلوماسية نجحت في تغيير الجهود الدولية وتحييدها عن مسارها المُعتمد على نظريات تقسيم سورية وإسقاط بنية الدولة، فقد استطاعت فتح مسار تفاوضي جديد مبنيّ على أسس النجاح في الميدان، هذا النجاح جاء متناغماً مع ما تمّ تحقيقه سورياً، ونجح في الكثير من جوانب الجهود السورية والروسية بتأسيس مناطق واسعة أُطلق عليها مناطق خفض التصعيد، وفق إستراتيجية مدروسة ومُحكمة أسّست لحل سياسي ، لكن وضمن نظريات الأمر الواقع والمستجدات الجديدة، فقد كان لهذه الإستراتيجية دور محوري في ترتيب عمليات وقف إطلاق النار وإجراء المزيد من المصالحات الوطنية، هذه التطورات المتلاحقة والمتسارعة تمّ تجسيدها عسكرياً وأمنياً، لتتغير على وقعها جغرافية العمليات العسكرية وصيغة الحرب المرسومة، إضافة إلى القضاء على الأجندات الدولية التي وضعها داعمو الإرهابيين في سورية، حينها فقط تمايزت المطامع الدولية الضائعة بين الإصرار الروسي على الحلّ السياسي، وتمسّك الدولة السورية وقيادة السيد الرئيس بشار الأسد بحقها السيادي في فرض سيطرتها على كامل الجغرافية السورية، بالاعتماد على الزخم الهجومي والقوة النوعية للجيش العربي السوري.
ضمن هذه المعطيات والمؤشرات البينية برزت مؤشرات تحدي الارادات بين جمهورية روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، هي مؤشرات رسمت المعالم الكبرى للمشهد السياسي والعسكري في سورية، لكن وضمن معادلات القوة التي فرضتها قيادتنا الحكيمة ومعنا حلفاؤنا، حُسمت الكثير من الملفات الأساسية والجوهرية، ولاسيما أنّ المعارك العسكرية والأمنية الكبرى من حلب وريفها، إلى دير الزور وريفه الواسع، كانت بمثابة التحوّل الجوهري في تفاصيل الحرب على سورية، هذا الأمر حُدّدت بموجبه موازين القوى، وكانت مُنطلقاً لترتيب الخارطة العسكرية، على اعتبار أنها الأساس في تفعيل أي حلّ سياسي.
مع وضوح خارطة السيطرة العسكرية التي فرضها جيشنا العربي السوري بإنجازاته، تمّ فتح طرق الحل السياسي من أستانا إلى جنيف مروراً بـ سوتشي، لذا فالترتيب السياسي المتناغم مع العسكري والأمني، أسّست بموجبه جمهورية روسيا الاتحادية والجمهورية العربية السورية وجمهورية إيران الإسلامية معادلات قوة لا يمكن تجاوزها، ومع محاولات تركيا اللحاق بهذه المعادلة، باتت الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن مجريات الحلّ السياسي، لكن في مقابل ذلك، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة الاحتفاظ بالوجود العسكري الضاغط على أي حلّ سياسي، أما التبرير الأمريكي فانطلق من مبدأ الضرورة التي تُوجب دعم الحلفاء على الأرض، وهم بالطبع المرتزقة، ومنع عودة الجماعات الإرهابية، هذه التبريرات ترجمتها القيادة الروسية على أنها تهديد لوحدة سورية وأراضيها، كما أنها تُمثل عائقاً حقيقياً أمام أي حلّ سياسي قادم، فالخلاف الروسي الأمريكي في سورية قد لا يُنذر بصراع عسكري على المدى المنظور، لكن الخلاف بين البلدين ينطلق من ترتيبات الحضور العسكري، ومحاولة السيطرة والاستحواذ على القيمة الإستراتيجية للدولة السورية، لأن سورية تملك أهم موقع جيواستراتيجي في المنطقة، وهي معبر استراتيجي للطاقة، لكن في مقابل ذلك، فقدت واشنطن الكثير من رهاناتها في سورية، جاء ذلك بعد قدرة القيادة السياسية والعسكرية في سورية وتراكم البيانات السياسية والعسكرية والأمنية السورية، ومعايشة روسيا للحرب الظالمة على سورية، قابله انكفاء وتراجع أمريكي واضح، رُسمت بموجبه ملامح الحلّ السياسي، وشُكلت على أساسه التحالفات الإقليمية والدولية بكافة مستوياتها.
وكان أيضاً من ضمن النظريات العسكرية والأمنية والسياسية الإستراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي فشلت في تحديد خياراتها، جاءت المقاربة الأمريكية لمسار التطورات الدراماتيكية المتسارعة في سورية بالاعتماد على بعض المجموعات الانفصالية التي استخدمت كأدوات لتحقيق أجندات محددة، وفي مرحلة لاحقة ركّزت الولايات المتحدة جهودها على منع ما سمّته (التمدد الإيراني) في سورية والمنطقة، هذه الذرائع الأمريكية التي كانت من ضرورات الحفاظ على آخر الأوراق السياسية والتلويح بها لعرقلة أي جهود دولية لإنهاء الحرب في سورية، وضمان عدم الاستقرار. لكن وضمن القراءة المنطقية لمجريات الأحداث وتطوراتها المتلاحقة، لم تنجح الولايات المتحدة في الكثير من السيناريوهات التي اعتمدت على الدعم العسكري والأمني للفصائل الإرهابية على اختلاف مسمياتها، فالفشل الأمريكي الذريع لم يقتصر على الفشل العسكري، بل إن الضغوط السياسية التي مارستها بغية خلق صدام سياسي حاد في مسار استانا أو سوتشي، فشلت أيضاً، حتى بدت ملامح الفشل الأمريكي الكبير تأتي وفق التسليم بالحل السياسي في سورية، قسراً وليس طوعاً. لكننا نرى أنّ هذه التعقيدات التي باتت راسخة والضارّة في الآن ذاته ستُبقي الولايات المتحدة ضمن معادلة الحل، هذا يُمكن ترجمته عملياً وبشكل واضح، على أنه انزياح أمريكي وتراجع عن خططها التي وضعتها في السابق وقبلت بالسير وراء التوجهات الروسية في سورية.
انطلاقاً مما تمّ تأسيسه على صعيد القيادة السورية والروسية والإيرانية، حرصت الدولة السورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد على هندسة أوراق الحل السياسي، هو حل قد يطول بالنظر إلى جملة التعقيدات وتضارب المصالح والمسارات، لكن ومع التصميم القوي لقيادتنا الحكيمة للعناوين العريضة للحل السياسي، تمكنت جمهورية روسيا الاتحادية وبموافقة قيادتنا السورية، من إرضاخ تركيا لتفاصيل وجزئيات الحل السياسي، وتمّ استيعاب الهواجس والمخاوف التركية ضمن سياق أستانا وسوتشي، وبذلك نجحت قيادتنا الحكيمة والقيادة في موسكو بزرع إسفين في العلاقة الأمريكية التركية، إضافة إلى ما اعتبره الأمريكان إسفيناً كبيراً بين واشنطن وأنقرة بعد وصول صواريخ S400 .
وفي إطار ما تحقّق من الرؤى الإستراتيجية، وبانتظار تفعيل خطوات الحلّ السياسي، تبقى القيادة السورية هي صاحبة الحل السياسي في سورية، ولاسيما أن الجغرافية والسيطرة على الأرض باتت بيد الجيش العربي السوري الذي دحر الإرهاب وداعميه. وعليه سيتمّ تأسيس الحل السياسي على طاولة روسية أمريكية، لكن التوقيت سيكون سورياً وبكل فخر. فقد أكد ألكسندر لافرنتييف المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية رئيس الوفد الروسي إلى محادثات أستانا أنّ التنظيمات الإرهابية والظلامية تحتجز مئات آلاف السوريين في ادلب .
الجدير بالذكر أنّ الدول الضامنة لعملية أستانا (روسيا وإيران وتركيا) كانت قد جدّدت في البيان الختامي للجولة الـ13 من محادثات أستانا التي عقدت في العاصمة الكازاخية نور سلطان التزامها القوي بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية واستمرار التعاون حتى القضاء التام على التنظيمات الإرهابية فيها ورفضها الأجندات الانفصالية التي تهدف إلى تقويض سيادة وسلامة الأراضي السورية.