قصاصات مبعثرة لوفيق أسعد
في هذه القصاصات التي صارت نصوصا وجع روح، هي بالاساس موجوعة، قلقة، لكنها دائمة البحث عن السكينة، هل وجدتها في صرخة مدوية أم في سخرية مرة وصلت إلى أن يرى الكاتب نفسه بسبب الحرب كناريا يغرد في قفص ليمتع غيره، وربما رأى نفسه برميل قمامة في تعبير جارح وراح يفاضل بين قمامة الأغنياء وقمامة الفقراء.. من هو الكاتب وفيق أسعد وماذا قال عن نفسه: كنت في شبابي عضوا متحمسا في الحزب الشيوعي وكنت احلم في تغيير العالم وسرعان ما أدركت أنني مجرد درجة يداس عليها ليصعدوا هم وينزل العالم درجة، وأدركت ان الكمال في هذا العالم مستحيل، والمثل العليا مستحيلة، والحرية كذلك لا يمكن تحقيقها إلا على المستوى الفردي، لذا فضلت العيش منفردا منعزلا أقرأ وأكتب وأرسم وأرقص وأترك التأمل يتأملني، لكن الحرب لم تترك أحدا وشأنه.
لا أدري لماذا رأيته تلميذا نجيبا في مدرسة الماغوط كمحمد عيسى وكثيرين غيرهم، أما ابنته الكبرى فقالت: أبي يحلم أن يصبح أعظم مجنون في العالم.
لقد جرحت الحرب الكاتب ماديا وروحيا وألقته مهجرا يرى في إيواء أخيه له في بيت من غرفة واحدة بحي ركن الدين حدثا بالغ الأهمية نظرا لتعاسة ما وصل إليه المجتمع من حال، مع أن مثل هذا العطاء على أهميته لم يكن يحظى بهكذا تقدير من قبل أو في ثقافتنا وعاداتنا التي ترى في الأخ والأهل وابن العم وابن الخال حتى، سندا طبيعيا، يقول وفيق في صفحة 109: كانت مئذنة بلدتي صليبا وكنيستها هلالا، كان عندما يموت أحد في بلدتي يغسله الشيخ ويكفنه الخوري ويصلي عليه الجميع، لكننا بعد الحرب وعلى لسان سكران راح يتمتم بعدما صدمه السارد (العمى شو كل العالم دايخة).
لكن الكاتب وقد عاش تجربة قاسية في عدرا العمالية بل تكاد مأساة عدرا أن تكون الحرب كلها بما حملته من قبح وسقوط في أوحال الطائفية البغيضة، لكنه تمكن عبر هذه النصوص من تقديم الحرب كما هي لتتعلم الأجيال القادمة من دروسها وعبرها فأبدع أقوالا مأثورة تحسب له ويجب أن تنسب إليه، ومن هذه الأقوال: من لا يموت في هذه الحرب لن يموت أبدا.
ومثل: هذه الحرب جعلتني أخسر كل شيء، بالمختصر.. جعلتني أكسبكم.
إيه.. حقيرة هي الحرب كما الموت بلا موعد، كما الحياة بلا موعد وقد تأخرت.
أعرف أننا الأجمل وإلا ما كانت الحرب اختارتنا من بين كل الأمم لا بأس سنهزمها بنقائنا بعد أن تطهرنا.
إيه.. اغسليني أيتها الحرب من أثامي علني أصبح إنسانا.
وفي توصيف هو الأجمل للحرب: إيه أثداء الصيف ممتلئة أكثر من أرداف الشتاء وشفاه الربيع اكثر يباسا من ثوب الخريف.. إنها الحرب.
لذلك بات يخصص وقتا للبكاء كما للقراءة والعمل والطعام وقتا محددا يبكي فيه الى ان يصبح فارغا تماما كالطبل فينام بهستيريا وبلا احلام، لكنه يكتشف وهو يتسكع في شوارع دمشق وسط نوبة من الألم والوحشة والمرارة واليباس والبؤس والفشل: أن دمشق ذات الأبعاد اللامتناهية نحتاج الى حياة مضاعفة كي نكتشفها.. إنها دمشق لا تعطي مفاتيحها إلا لمن يعشقها.. فانغمس في دمشق لتخرج نقيا.. عاشقا نقيا.
رياض طبرة