رغم تعاطينا غير المبالي ووجود قرار ملزم لكنه غير مطبق “السلامة والصحة المهنية” قناة لهدر الأموال.. أم بوابة للنمو الاقتصادي والتنموي؟!
لم نستغرب أن يقال عن السلامة والصحة المهنية في بلدنا: إننا نتعاطى مع هذه القضية بابتذال رغم أنها قناة لهدر الأموال؟!، فما بين الواقع والطموح في هذا الشأن الغاية في الأهمية والضرورة، هوة عميقة بحاجة للردم السريع المدروس على أسس علمية يحقّقه هذا “النظام الاقتصادي الإداري” الملح، لتأخذ به مؤسساتنا وشركاتنا، العامة أو الخاصة، بشكله ومضمونه الصحيحين، كي نصل فعلاً إلى جبهات اقتصادية كاملة الجدوى، لا مجال فيها للهدر المالي والإنتاجي، خاصة وأن عامل “السلامة” يشكّل كتلة مالية يمكن في حال الوصول لتطبيق متطلباتها (الصحية والمهنية) في كل منشأة، تحقيق وفر إجمالي كبير لايزال يضيع، مستنزفاً الموازنات السنوية لمنشآتنا؟.
فالسـلامـة والصحة المهنية، تعدّ من أهم معايير وشروط العمل والتأمين، وبالتالي فإن توفير بيئـة عـمـل آمنة، هو أولوية بالنسبة لصاحب العـمل ممثلاً بالإدارة، وتعود أهـمية الالتزام بمعاييرها ومتطلباتها إلى احترام الإنسان بوصفه إنساناً وأهمية دوره في تحقيق التنمية الاقـتصادية والاجتماعـية.
والسلامـة والصحة المهنية كمفهوم، تُعرَّف بأنها العلم الذي يهتمّ بالحفاظ عـلى سلامة وصحة الإنسان وقوة وقيمة عمله وإنتاجيته، وذلك يتوفر في بيئات عمل آمنة خالية من مسبّبات الحوادث أو الإصابة أو الأمراض المهنية، وبعبارة أخرى هـي مجموعـة من الإجراءات والقواعد والـنظم والقوانين والمواصفات المنصوص عليها ضمن إطار تشريعي تهـدف للحفاظ عـلى الإنسان من خطر الإصابة، وكـذلك المحافظة على الإنتاج ومعداته والبيئة من خطر التلف والضياع والتلوث.
قانون “ناقص”..!
وبالنسبة للسلامة والصحة المهنية من وجهة نظر القانون والتشريع في سورية، فقد نظم قانون العمل رقم 17 لعام 2010 في الباب الـ11 منه، السلامة والصحة المهنية من خـلال المواد 230 حتى المادة 243، وكذلك القرار رقـم 28 لعام 2010، وهي عبارة عـن التعليمات التنفيذية للسلامة والصحة المهنيـة الواردة في القانون آنف الذكر.
ولكن هل ما جاء في الـقانون وتعليماته التنفيذية شامل ويغطي كافة احتياجات نظام إدارة السلامة والصحة المهنية؟ وهـل يحتاج هـذا القانون إلى تعديل مع تعـليماته الخاصة بالسلامة والصحة المهنية أيضـاً؟.. هي أسئلة نعم.. لكنها تشير في الحقيقة إلى أن الخلل القانوني والتنفيذي لا يزال قائماً وبحاجة للإصلاح!.
بأدنى مرتبة..!
ولو بحثنا عن موقع السلامة والصحة المهنية في الهياكل التنظيميـة لأية شركة أو مؤسـسة، فهو في أدنى مراتب الاهتمام والأولوية، هـذا إن وجـدت..!؟، وهذا ما كشفته الندوة التي عُقدت مؤخراً في نقابة المهندسين بدمشق حول الموضوع عينه، وعليه فقد استنفر هذا الواقع عدة تساؤلات لا مناص من طرحها وأولها: هل السلامة والصحة المهنية أولوية أم لا..؟، وهـل هي عبارة عـن مشرف أم لجنة أم شعبة، هـذا إن وجدت أو لم تكن موجودة؟، ومن المسؤول عـنها في المنشأة؟، علماً أن جميع عـناصر المنشأة مسؤولون عن تنفيذ منظومة الصحة والسلامة المهنية من رأس الهرم الإداري وحتى قاعـدته (المـديـر والمهندس والعامل والمتعهد، كلّ حسب دوره وموقعه).
وبالانتقال للإجابة عن السؤال الآتي: لمـاذا الصحة والسلامـة المهنية؟، يؤكد الخبير والاستشاري في هذا التخصّص المهندس عادل دحدل أن تحقيق الصحة والسلامة المهنية، هو تطبيق للقانون، لأن الأخير سوف يحاسـب على عدم تطـبيق إجـراءاتها، كما أنها الـتزام أخلاقي أمام العاملين في المنشأة، وتكمن أهمية وضرورة تطبيقها في المحافـظة على العنصر البشـري بالدرجة الأولى والبيـئة والمعدات والإنتاج والسـمعة للشركة، إلى جانب الأثر المالي المهمّ لتطبيق معايير واشتراطات السلامة، حيث إن التطبيق يوفر الأموال ويحافظ على المعدات والإنتاج، عـلى عـكس مـا هـو مفهوم بأنه يكلـف المال.
غير مباشرة..؟
ويبيّن الخبير أن هناك مصاريف مباشرة، وهي عـبارة عـن المصاريف التي تُدفع من أجـل طبابة العامل الـذي تعـرّض لإصابة أو لحادث، والأهم هي المصاريف غير المباشرة التي تتضمن ست نقاط: (الضياع بالوقت- فقدان وخسارة معدات الإنتاج- السمعة غير الجيدة عـن الشركة نتيجة تكرر الحوادث والإصابات فيها- عـند إصابة أي عامل يحتاج إلى استراحة، وبالتالي لا بد من تأمين البديل والبديل يجب أن يمتلك الخبرة والمهارة نفسها- انخفاض الروح المعنوية لدى عناصر الشركة- صعـوبة توظيف عناصر جديدة بالشركة نتيجة معرفتهم بالخطـورة والحوادث في هذه الشـركـة)، وعليه فكل ما سبق يكلف أموالاً طائلة إن لم تطبّق نظم واشتراطات ومتطلبات السلامة والصحة المعنية، والعكس صحيح فالتطبيق الكامل والمتكامل سيحقّق وفورات مالية وغير مالية مهمة.
اتفاق عالمي..
تأثير الصحة والسلامة في العمل على النمو الاقتصادي؟.. هو السؤال الأوجه عالمياً ووطنياً، بحسب الوكالة الأوروبية للسلامة والصحة في العمل، فوفقاً لمنظمة العمل الدولية، كانت صدرت الاتفاقية رقم 161، المتعلقة بخدمات الصحة المهنية عام 1985، وقد أكدت هذه الاتفاقية أهمية دور الدولة في إيجاد أقسام لخدمات الصحة والسلامة المهنية في كافة المنشآت، تساهم في تأمين بيئة عمل آمنة وصحية للعمال، وتحافظ على قدراتهم البدنية والنفسية، وذلك بإشراف وتعاون ممثلي العمال المنتخبين، وأن تكون الإجراءات المتخذة كافية لمواجهة المخاطر التي يتعرّض لها العمال والمؤسسات من خلال الخطط التي تنظمها في جميع أقسام الصحة والسلامة المهنية.
وأكدت المادة (5) من الاتفاقية مشاركة ممثلي العمال في مسائل الصحة والسلامة المهنية، وذلك مع عدم الإخلال بمسؤولية أصحاب العمل بضرورة تأمين الصحة والسلامة المهنية لديهم من خلال تنظيم وتحديد المخاطر التي تهدّد الصحة في مكان العمل، مراقبة بيئة العمل وانعكاسها على صحة العمال، تقديم المقترحات الضرورية في تخطيط وتنظيم العمل، كالصيانة الدورية للآلات والمعدات، مراقبة صحة العمال وعلاقتها في بيئة العمل، نشر المعلومات وقواعد الصحة المهنية، تحليل أسباب الحوادث والأمراض المهنية.
أما المادة 12 من الاتفاقية، فأكدت مجانية الخدمات الصحية المهنية المقدمة للعمال، وتقديمها أثناء ساعات العمل. وأشارت المادة 8 منها إلى أهمية دور ممثلي العمال في تنفيذ كافة التدابير المتعلقة بأقسام الصحة المهنية، وألزمت الاتفاقية في المادة 3 منها الدولة بإقامة أقسام للصحة والسلامة المهنية لجميع العمال، سواء في القطاع الخاص أو القطاع العام وجميع فروع النشاط الاقتصادي، وأن تكون هذه الإجراءات كافية ومناسبة لمواجهة جميع المخاطر المحتملة.
محلياً…؟
حول هذه القضية، حاولنا مقاربة الأمر من منظور “علم التأمين”. فعلى الرغم من لحظ القانون 17 السابق لهذا الموضوع، إلا أن مدير عام هيئة الإشراف على التأمين المهندس سامر العش، كشف عن وجود قرار لإلزام المنشآت الحكومية بمعايير السلامة والصحة المهنية، إلاَّ أنه غير مطبق وهو قيد المداولة.
العش أوضح أن صحة العامل والأمراض المهنية والإصابات الناتجة عن العمل هي من مسؤولية مؤسسة التأمينات الاجتماعية لناحية التعويضات ونسب العجز..إلخ، أما التأمين الصحي فلا علاقة له بذلك، لكنه يتقاطع مع موضوع السلامة، في ازدياد عوامل الإصابة، مبيناً أن اشتراطات شركات التأمين عند معاينة المخاطر في المنشأة من أجل إبرام عقود تأمين لها، تشمل كل شيء حتى التمديدات الكهربائية، أي كل شيء يتعلق بسلامة المنشأة والعامل، وعند وجود أي خلل أو عدم استيفاء معايير السلامة لن يكون مقبولاً تأمينياً إبرام أي عقد.
50% بالحد الأدنى..!
وعن الأهمية الاقتصادية في التزام المنشأة بمتطلبات السلامة، وما نسبة الوفر المالي الذي يمكن تحقيقه في حال الالتزام، فأكد أنه أكثر من 50%، وهذه النسبة بحدها الأدنى، لكون دور التأمين يكمن في تخفيض أسلوب الخطر داخل المنشأة، وبالتالي التحكم بإدارة المخاطر فيها، وهذا ما يعزّز استقرار واستدامة المنشأة والإنتاج وينعكس إيجاباً على السلامة والصحة للعاملين فيها.
كما أكد أنه كلما التزمت المنشأة انخفض القسط التأميني بشكل كبير ويحقّق العدالة، والعكس صحيح، وعن نسبة التزام المنشآت بالاشتراطات التأمينية، قال: إنها محققة.
كيف يتوافق..؟
الآن نأتي للسؤال حول كيف يمكن أن يتوافق هذا مع الاقتصاد والنمو..؟ والجواب سنبيّنه من خلال ما تخسره أوربا رغم تطبيقها لمعايير السلامة والصحة المهنية، فهي تفقد نحو 83 مليون يوم في السنة بسبب حوادث العمل، وثلاثة أرباع العمال فيها يتوقفون عن العمل ليوم واحد، لكن الربع الباقي يتغيّب لأكثر من شهر، لذا تخسر نحو 367 مليون يوم في إجازات مرضية، وبذلك تفقد الكثير من الإنتاجية، لذلك ركز الإطار الاستراتيجي الأوربي الجديد للصحة والسلامة بين الأعوام 2014-2020 على العمل مع الصندوق الاجتماعي الأوروبي لمواجهة التحديات، وهي شيخوخة اليد العاملة وتحسينُ تنفيذ القواعد الحالية والوقاية من الأمراض المهنية.
وبحسب دراسات فإن خسائر الناتج المحلي الإجمالي بسبب الحوادث والأمراض المهنية يصل إلى نحو 4٪، وفي أوروبا ما بين 2.6 و3.8٪ سنوياً، كما أظهرت ضرورة عدم النظر للصحة والسلامة كتكلفة فقط بل كاستثمار، فكل يورو يُنفق في هذا المجال، يولد 2.2 يورو على الأقل.
نكتفي بما سلف، لنسأل: محلياً، هل لدينا دراسات وإحصائيات رقمية خاصة بموضوع السلامة والصحة المهنية؟، نسأل والسؤال موصول للحكومة، وهو في مرمى وزاراتها وجهاتها المعنية، إذ حان الوقت للموازنة ما بين كلفة تطبيق معايير السلامة وعدم تطبيقها، حيث في ضوء النتائج يتوضح كل شيء، ونحن بحاجة في المرحلة الحالية والمقبلة لمثل ذلك الوضوح والشفافية، حرصاً ومنعاً لاختلال في ميزانيات وموازناتنا المالية العامة والخاص.
قسيم دحدل
Qassim1965@gmail.com