فراشات الأمس وزهرات الياسمين.. نساء من أمتي!!
يتناول كتاب “فراشات الأمس وزهرات الياسمين” –الصادر عن الهيئة العامة للكتاب- حياة عدد من الكاتبات العربيات قديماً وحديثاً، فيضيء جوانب من إبداعهن في الشعر والقصة والرواية، مبرزاً دورهن في إغناء دوحة الأدب العربي والتعبير عن هموم المرأة وشواغلها وواقع الأمة وطموحاتها بأسلوب سهل شائق ممتع.
استضافت الكاتبة سليمى محجوب في كتابها نساء عبّرن بحرية عن ذواتهن ومجتمعن فكراً وأحاسيس لم ينزوين في غرف مقفلة، ولم يغلقن أصواتهن بمفاتيح الأنوثة التي كانت تفرض على المرأة تقاليد عمياء، إنهن مبدعات سعين بثقة وكفاح عنيد كي يتبوأن موقعهن الطبيعي في دنيا الوجود، فحققن وجودهن الإنساني الخصيب لقد ارتدين عبير القول والإبداع بلا وجل ولا انكسار فأتحفننا بكنوز مخبوءة بتفاصيل غنية عن حياتهن وعصرهن ضمن عطاء فكري وأدبي.
الإبداع الجميل
رحلة إلى شواطئ الزمن البعيد، ووقفة مع الحاضر ترتب طريقها، وتظهره بعد أن يمسح عنها ضبابية الأيام، من لا يملك ماضيه لا يستطيع الإحاطة بحاضره، ومن لا يملك الماضي والحاضر لا يمكن أن يؤسس للمستقبل.
هكذا تبقى الذاكرة تستغرقنا، وكأننا كلما أمعنا في الماضي توهجت الحياة في أعماقنا والزمن وحده هو الذي يفتح مواقيتنا ويغلقها، هو الذي يستطيع أن يعيدنا إلى طلاسم الإبداع ليفك سحرها المعقود بلا حدود.
إن تاريخ الحضارة العربية يحفل بشخصيات نسائية كان لها طاقاتها الإبداعية في عصور تعبق برائحة الازدهار واليقظة والتقدم، ولا بد لنا من وضعهن في دائرة الضوء لأنهن نساء مميزات في مخزوننا الفكري والاجتماعي، ولابد من تسجيل دورهن الريادي للمرأة المعاصرة وما مر من تجربتهن الفكرية من تطور ملحوظ لم يكن إلا نتيجة طبيعية لكفاح طويل خاضته المرأة العربية في عصور كانت الحياة فيها صعبة وجافة.
لقد مرت على نساء من أمتي حقبة من التاريخ الاجتماعي جعلت المرأة تستسلم لمصير حزين، يجعلها في أغلب المواقف تقف دون مقاومة مجدية كي تثبت وعيها بوجودها، وشعورها بذاتها إلى أن نسجت أمانيها وآمالها بخيوط الذهب والفضة والجدول المسكوب، فأدركت أن لا سبيل أمامها للتقدم والرقي ومجاراة التطور العصري المتسارع إلا بالمزيد من المعرفة الإنسانية، فناضلت وتسلحت بالعلم والثقافة وشعلة الإيمان فأصبحت بما تحتويه من نتاج معرفي وثقافة مقبولة جزءاً من زهور حدائق المعرفة لنشر عطرها ربيعاً في حقول الفكر وحدائق الأدب ومراح اللغة العربية الأصيلة.
ومما لا شك فيه أن الباحث إذا أراد أن يمد يده ليبحث عن المرأة العربية التي أسهمت في صياغة أنماط الحياة والتقدم منقباً في بطون الأسفار المطبوعة والمخطوطة لعله يظفر بطلبه ويدرك حاجته لا بد له من أن يتجشم عناء ومشقة، على الرغم من وجود عدد من النساء في أمتي قد خلدن في مجتمعي العرب والإسلام أثراً بارزاً في العلم والحضارة والأدب والسياسة والدهاء، والنفوذ والسلطان والبر والإحسان والدين والصلاح والتقى والورع، مما يميط اللثام عن الأدوار المختلفة التي لعبتها المرأة بما لديها من قدرات ذهنية خارقة للمشاركة في الإبداع الحضاري الذي تلتقي به مع الرجل في نهج من الإخاء والتعاون فالثقافة من أمضى أسلحة الحياة، وصدق الله العظيم بقوله: “خلق الإنسان علمه البيان”.
وكلمة الإنسان تشمل المرأة والرجل، وإن ساحة الفكر تتسع دائماً للجميع، لا فرق بين امرأة ورجل، سيول القول تتدفق وعطاء المرأة واضح وبارز كان ومازال على الساحة الثقافية والإبداعية، والسؤال الذي لا يحتاج إلى إجابة فحسب وإنما للبحث عن الأسباب أيضاً هو لماذا ما يزال أدب المرأة يعاني ولا يقف نداً قوياً مع أدب الرجال، يرون أن الأدب النسائي –كما يحبون تسميته- يعاني من تقديم إنتاج منافس لأدبهم ويفتشون عن نقاط المزالق والضعف رغم وجود الرائدات والريادات في مجال الأدب والفكر، ترى هل لأن الأشجار المثمرة هي التي ترمى دائماً بالحجر؟. وبالرغم من ذلك فإن هناك شخصيات وقامات وأصوات نسائية، لم يبق منها سوى ظلال في الذاكرة كما أن الأيام لم تترك لنا إلا القليل من المؤلفات التي تتحدث عنهن، ما طمس الأخبار وأضاع الآثار ومع هذا يبقى ما لدينا من آثار وأخبار مبعثرة هنا وهناك شاهداً على إسهام المرأة في صنع التاريخ السياسي والاجتماعي والأدبي عند العرب.
لقد جددت المرأة العربية جذوة العزم، وأمعنت التأمل في أحوال أمتها، وعاينت ما تجابهه من مؤامرات لتبقى المرأة متخلفة عن الركب، مع أنها تشكل نصف المجتمع بل المجتمع كله لأنها هي التي تلد وتربي الأبناء والأحفاد وسائر الأفراد لقد أريد للمرأة أن تبقى سادرة في كهف التخلف والضياع لكن وعيها لذاتها وإحساسها بشخصيتها وكيانها ودورها كان مع الأيام نتيجة منطقية للوعي القومي العام الذي غمرت أمواجه الأمة العربية.
لقد بزغ نجم عدد من النساء اللواتي أبدعن في آفاق الأدب العربي، فملأن الأسماع باللحن الساحر كشاعرات وبالصداح الآسر في القول والكتابة في مجالات النثر المتنوعة كالمقال والقصة والرواية والدراسة والنقد وغيرها، فكن فراشات الماضي وزهرات ياسمين في وجدان هذه الأمة.
جاء كتاب “فراشات الماضي وزهرات الياسمين” لينصف أولئك النجوم المتناثرة على تلال التاريخ، وقد رأيت -والكلام للمؤلفة- أن من حق تلك النساء من أمتي أن يقدمن إلى الأجيال العربية تلاحقت زاهية في أصداء ذاكرتهم، تنير لهم عتمة الطريق وقدرة اللغة العربية وديمومتها الرائعة في حفظ تراث مضى وحاضر أتى كي يحذو القادمون حذوهن ويسيروا على مسارهن.
جمان بركات