“لحن الغريب”.. طهران صارم ترفع شموسها
ليست القصيدة منتج شعري لانفعال غير مدرك وواع عند الشاعرة السورية طهران صارم في مجموعتها الشعرية “لحن الغريب”، رغم ما يبديه العنوان من معاندة للفكرة، فاللحن الذي اختارت الشاعرة أن تعزفه منذ البداية، وضعته على ناي الغريب، ليبح هذا الغريب كما يشاء، لكن القصائد التي تضمها المجموعة سوف تتأرجح بحبال مرتفعة الدفق الشعري الحر تارة، وستتدفق ألوانها منضبطة الحواس تماما تارة أخرى، إنها تتعامل مع اللغة الفكرة، الطرح، المادة، قبل أن تعيد تشكيلها بما جاد به وجدانها من تلك الانفعالات المنضبطة، رغم نزعتها التمردية القوية ومنذ البداية، أي من العنوان، فالغريب في الوجدان الشعري عندها، ليس إلا أناها التي صارت تتردد في التعرف إلى ملامحها وذاكرتها معها، وهي تتكئ على جذع اغنية تسرد على لسان الغريب نشيجها العالي، تقول في قصيدة “مُهاجر” بيدي أضفر ما تبقى من جدائل شمسه/ بيدي أقبض فوق عنق الريح/ اقطف ما تبقى من خريف طفولته/ صورا ترد الذاكرة/ صور يمزقها رنين الوقت/ يمضي فوق تاريخ الفصول/ ويشدني نجم يقول.
اشتغالات الشاعرة على الصور الشعرية في “لحن الغريب”، هي من أكثر ما يلفت الانتباه في قصيدتها عموما، إنها لا تذهب لكاف التشبيه، لأنها ببساطة تصل تلك السلاسل الشعرية التي صاغتها بصور شعرية متلاحقة وكثيفة، فتصبح القصيدة صورة شعرية متجانسة الشكل متنافرة المزاج، تقول في قصيدتها دفء: “شمس اليوم لم تكن مالحة/ كانت مطعمة بالسكر/ وكان الوقت يفيض منها ارتواء/ والظهيرة تحتها تنضج طازجة وشهية/ شمس اليوم كانت تمد أرجوحة/ وكانت الأشياء تتأرجح طافحة بالسكر”، القصيدة أو خطابها فيه، هو في حكم المنتهي، الراحل، العميق في ذهابه، وهذا ما يخبر به فعل “كان” الذي ورد ذكره في القصيدة 6 مرات، هي الذاكرة، تشد مفتاح ذهولها على الماضي، فتجترح اغنية فيها من المفردات الطفولية ما فيها، سكر وأرجوحة، طعم الشمس، وكأنها ترنيمة ألفتها في غياب، ثم بقيت أليفة ولكن أيضا في غياب.
“أخبروني البارحة عن سنونو وجهك/ يرف فوق غديرنا/ يخضر فوق حقولنا/ ويشعل القمر/ أخبروني أنه كان الغريب/ يعربد فوق ضفاف الريح/ يضم ما ألف إليه وتغرب/ أخبروني أنه قد توج النهر اللجوج بقصفتين من حريق/ وبأنه قد طوف البحر العجوز بدمعتين”، ما سبق من القصيدة التي حمل الديوان اسمها “لحن الغريب”، وهي حقا من أكثر القصائد شعرية في الديوان، إن كان في موضوعها على بساطته، أو في الأسلوب الذي اختارت فيه أن ترسم خيوط الحكاية، في الصور الشعرية المنحوتة برشاقة، وبالمعنى البسيط الدلالة، فالكلام هنا لا يحتمل الألعاب اللغوية، إنه بطلها وعندما تجيء على ذكره، تقدسه وتلعنه معا، كحال الأبطال عموما، فاللعنة هنا ليست في مقام الفعل، بل هي في أماكن قصية على البال، تجيء منها شذرات كصور مرئية تمر خطفا، لكنها تفعل فعائلها بالشاعرة التي تحاول التماسك أمامها، فتقول: أخبروني أنه باح لشرفته الأنين/ لكنها قد اغفلت عنه اليدين/ وسمته الغريب.
ما من خيط جامع لقصائد المجموعة عموما، بمعنى وحدة المزاج العام للمجموعة، بل هي أكثر قربا من عقد منفرط، إنها متنوعة المواضيع التي تغلب عليها مسحة عامة من الحزن، وهي أيضا مفاجئة بما قد تختار الذهاب للتعبير عنه أو في شكل التعبير عنه، تارة كسرد منفصل، وتارة كلوحة واحدة، تميل “للهايكو” لكنها لا تتطبع بطبائعه كلها، تقول في خَلجات: انتبه/ الكلمة التي سقطت منك في غفلة/ كان فيها مقتلي/ بيني وبينك مسافة قصيدة علقتها على الباب/ كم سال دمه/ كم عانى النصال/ وكم نسي أن قبضتها بيده/ قرأتك علني أعرفك/ زدتَ في غموضك/ وأوغلت ركضا في المجهول”.
لحن الغريب ضربة ريشة رقيقة على وشاح الشعر بخفة وثقل بآن.
تمّام علي بركات