“بروكلين”.. فيلم يتحدث عن الخوف والغربة
سميت مدينة “بروكلين” -إحدى البلدات الخمس في مدينة نيويورك- نسبة لمدينة Breukelen في هولندا، وبعيداً عن التاريخ أو الجغرافيا إلا أن الموضوع له شجون أخرى وأبعاد إنسانية مهمة.
في الحقيقة، نادراً ما تشاهد فيلماً وتشعر كأنك تقرأ رواية حقيقية، ويجعلك تنغمس في الأحداث، وتأسرك قصته وشخصياته. اُقتبس الفيلم الدرامي التاريخي “بروكلين” –من إخراج الايرلندي جون كرولي صدر سنة 2014 وكتابة نيك هورنبي- عن رواية “بروكلين” للكاتب الايرلندي كولم تويبين التي نشرت سنة 2009، يحكي الفيلم عن الوحشة والغربة والخوف، عن الوطن والوطن البديل، والحيرة بين كل ما سبق، والقلب الذي يرغب في الاستقرار لكن لا يدري أين المستقر، كل هذا نراه بعيون “أليش” الفتاة الايرلندية الشجاعة الخائفة، التي تركت خلفها المنزل والأهل والأحباب لتبدأ مستقبلاً في بلد الفرص بالولايات المتحدة، ولكن هل كان ذلك خياراً سهلاً؟.
يحمّل الكاتب شخصيته الأساسية أليش بالكثير من التساؤلات، ليتركها حائرة ووحيدة في إيجاد الجواب عن هذه الأسئلة، ما هو الوطن؟ هل هو أرض المولد أم أرض الاستقبال؟ هل هو مكان الأسرة التي ولدتك وستضمحل فيما بعد أم ذلك الذي ستكوّن فيه الأسرة القادمة؟ لتفرز هذه التساؤلات الفلسفية مجموعة أخرى من الأسئلة المستقبلية المعقدة التي تخص الذات والوجود والمغزى من الحياة، واحد من أصعب هذه الأسئلة يتمحور حول ماهية انقطاع الحبل السري بين المهاجر وأرض مولده، ترى هل هي قطيعة مع الوطن الأم أو مع الذات القديمة التي كانت تسكن ذلك الوطن؟.
تدور أحداث الفيلم حول فتاة تغادر الريف الايرلندي وقسوة أهله وتدخلاتهم في شؤون الآخرين لتجد ملاذاً آخر يأخذ منها ويعطيها في الوقت نفسه، بعد وصولها إلى بروكلين/ نيويورك تتخلص من العقد الاجتماعية والآفات النفسية الفتاكة المستشرية في وطنها الأم كالغيرة والحسد ومراقبة الآخرين، والتدخل في شؤونهم لتجد نفسها في دوامة أخرى تتعلق بالأمور الاقتصادية والمعاشية وساعات العمل والقدرة على التأقلم والاندماج في المجتمع الجديد، فالبيت الجديد الذي يضم المهاجرات السابقات من أبناء جلدتها أشبه بنزل عسكري قاسٍ يكاد يخنق الروح في النهار، أما الليل فهو لحن جنائزي أعضاؤه الخوف والحنين والاشتياق والحيرة والتوجس من الصباح القادم، لحن يسير بقدمين من الألم والأمل، إذ تأمل “أليش” إلى جانب الحياة المعقولة بالحب الذي سيترجم فيما بعد إلى حيرة بين السباك الإيطالي الطموح في بلدها الجديد وذلك الذي ستقابله في بلدها أثناء زيارتها لأمها فيما بعد.
ينهي الكاتب فيلمه برجوع الفتاة (أليش) إلى وطنها الجديد بعد أن تقوم جارتها العجوز في الريف الأيرلندي بفعل يذكرها بديمومة تلك الآفات والرواسب الاجتماعية التي هربت منها، لترجع مرة أخرى إلى بروكلين وتتزوج من حبيبها هناك، تاركة وراءها جرحاً لن يندمل، أبطاله الأم المريضة والأصدقاء والذكريات وأماكن الصبا وملاعب الطفولة، لكن هذه هي الحياة، لا تخيرنا باستمرار، وإن أعطتنا الخيار المراد، يكون غالباً متأخراً فاقداً قيمته بعد شيخوخة الروح، فالصبر والخوف والجوع والأمل غير المشروع والألم والصبر والتحمل اللا منطقيين كلها عناصر تشكل الروح بلوحة عجوز إطارها اللامبالاة وتعلقها على حائط الانتظار والسكون والاستغراب.
قد تبدو نهاية الفيلم سعيدة، لكنه يبقى من الأفلام ذات النهايات المفتوحة التي تترك للمراقب إكمال أحداثها المشحونة بالحب والأمل والخوف والتردد والمشاعر والحيرة والطموح والتفاؤل والتشاؤم.
عُرض فيلم “بروكلين” لأول مرة في مهرجان صاندانس السينمائي في 26 كانون الثاني عام 2015، وبعد العرض بدأت حرب مزايدة بين شركة وينشتاين وفوكاس فيتشير وآخرين، وفي النهاية انتصرت فوكس سيرش لايت بيكتشرز وحصلت على حقوق عرض الفيلم في الولايات المتحدة والعالم مقابل 9 مليون دولار، الصفقة كانت واحدة من أكبر الصفقات في تاريخ صاندانس، واختير أيضاً الفيلم للعرض في قسم العروض الخاصة بمهرجان تورونتو السينمائي الدولي.