القتلة.. في البيت!
حسن حميد
الآن،
بعد سيولة هذه الأحداث والأخبار المصبوغة بالأنفاس الحامضية أعي أمرين اثنين، أولهما: رواية أديب روسيا الكبير دوستويفسكي (1820ـ 1881) (الجريمة والعقاب)، وما جاء فيها من أبعاد نفسية أفادت علم النفس حين فتحت له بوابات ونوافذ نحو الذات البشرية لمعرفة ما تكنّه من مضمرات، وأبداها المضمرات الشريرة. تقول الرواية إن (رسكولينكوف) بطل الرواية الطالب الجامعي، وبعد أن قتل العجوز المرابية (إيفانوفنا)، ظن أنه قام بجريمة كاملة، لا أحد رأى، ولا أحد سمع، ولا أحد سيطالبه بأن يثبت براءته، فهو خلو من أي اتهام أو شك أو مظنة، لا أحد يعرف ما فعله ولماذا.. سواه! ومع ذلك فهو يعود إلى مسرح الجريمة، إلى بيت العجوز المرابية مرة ثانية ليدور حوله مثل الممسوس، ليرى، وقد بعُدت لحظات الجريمة، وولت انفعالاتها وتوتراتها، وأسئلتها الباطشة، من أين دخل، وإلى أي حائط لجأ واستند، وليعرف مرة أخرى متى ضبط خطواته ولجمها، ومتى سيطر على أنفاسه ورجفة يديه، وكيف شرع بالجريمة, لقد أراد أن يعرف، في وضح النهار، الدرب الذي قاده إلى فعل الجريمة، وفي أي موضع تشكلت بقع الدم، وإلى أي جانب مالت العجوز، وكيف هوت، وما هي صورة وجهها الأخيرة، وكيف كانت نظراتها، وإلامَ أشارت؟! بل ليستعيد لحظات الحشرجة، وما الذي قالته، وما الذي أحاط بها من قطع الأثاث!
كان لابدّ للطالب الجامعي الذي بدا للجميع مسالماً، ولطيفاً، ووديعاً، من أن يعود مرة ثانية إلى بيت المرابية العجوز (إيفانوفنا)، وهو بكامل وعيه كي يرى وهو طيّ الهدوء الممدد كيف اقترف جريمته، وكيف قتل، وهو الذي ظن أنه كان مقتولاً (بعذابات العيش) طوال الحياة التي مرّ بها!
وعيت هذا الأمر مرة جديدة، حين عرفت ممروراً وموجوعاً أن قتلة أحد أبناء فلسطين الخلص (خليل الوزير) عادوا إلى مكان جريمتهم، إلى بيته حيث قتلوه في تونس، مرة أخرى كي يعرفوا، وبالهدوء الكامل، والطمأنينة الكاملة (عربياً ودولياً)، كيف قتلوه، وليقولوا لمن هم حولهم، هذه هي الدروب التي سلكناها كي نصل إليه، هذا هو الباب الذي قرعناه ليلاً، مرة بهدوء، ومرة بضجيج، وهنا، هنا تماماً، وقرب تلك الأشجار، توقفنا في كمين، هنا قتلنا الحراس الساهرين أمام البيت بأسلحة كاتمة للصوت واحداً واحداً، كان الليل في هزيعه الأخير، وحين فتح الباب، كان (خليل الوزير) في وجهنا تماماً، كتلة تتحرك في العتمة، فأطلقنا النار عليه بكثافة.. فهوى مثل حمل ثقيل، انظروا هذا هو الباب، وهذه هي ثقوب الطلقات التي ثقّبته!
بلى، ها هم قتلة (خليل الوزير) في تونس، في رحلة سياحية عرف بها القاصي والداني، إنهم يعاينون مكان جريمتهم، تماماً مثلما عاينها (راسكولينكوف) قاتل العجوز المرابية في رواية دوستويفسكي (الجريمة والعقاب)..
أما الأمر الثاني الذي أعيه الآن، فهو هذا الضعف المشين الذي يخترم معظم أجزاء الجسد العربي عبر أشكال وصور ومشهديات عدة منها اللامبالاة، والتهاون، والنفور من القضايا العربية التي أسميناها بالمصيرية، والبحث عن الخلاص الفردي لدى الأعداء الذي يتحكمون في كل شيء! ها هي حال الضعف العربي بادية حين تقول لنا مراوغةً: إن الإنحناء للعدو جنوح للسلم، وإن المقاومة إرهاب، والمطالبة بالحقوق تشنج ويباسة رأس، ونسيان فلسطين (أرضاً، وتاريخاً، وشعباً، وقضية) هو معاصرة وحداثة وعشق للسلام، والسكوت على المظلومية التي أخذت الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد والتاريخ والجغرافية.. هو تعال على الجراح، ومسامحة، ورضا بالمعايشة، وبناء للسلام، ورجاحة عقل في عدم فتح الملفات القديمة.
يا إلهي، أي تاريخ هذا الذي نكتبه بأيدينا ونريد أن نصدقه! وأي ميراث شائه سنورّثه للأجيال الطالعة، وأي غفلة وبلاهة وعماء تعيشها معظم السياسات العربية؟! ليس في الجواب من شيء.. سوى المحزنة!
Hasanhamid55@yahoo.com