في سباق الحفاظ على أعراف المهنة.. مائة حرفي عتيق يأخذون بيد “مريديهم” أحد شيوخ الكار: أهم أسرار عملنا أننا “نبيع الزيت في سوق الزيت”!
علّم الآخرين الصنعة على أكمل وجه.. قوّم الأخطاء التي قد يقعون فيها..احرص على تبادل الخبرات مع من هم في سويتك الحرفية، أو حتى دونها..ولكن يبقى الأهم (بع الزيت في سوق الزيت).. هذه هي الوصايا الأربع لرجل يقدم نفسه كشيخ كار (مرجعية حرفية روعيت عرفاً في أوساط الحرفيين، الذين تناقلوها جيلاً بعد آخر)، ويسعى لتأصيل هذه المرتبة الحرفية، إن جاز لنا التعبير..
عصام الزيبق واحد من خمسة شيوخ كار في مهنة تشكيل وخراطة المعادن على مستوى دمشق، يجزم بأهمية وضرورة مثل هؤلاء الشيوخ ليس لتطوير المهنة وحسب، بل أيضاً لضمان وضع ضوابط وقواعد تنظم أداء الممتهنين لها، إذ ثمة قبول أخلاقي وأدبي من الحرفيين، ولاسيما حديثي الممارسة، بما يقوله هذا الشيخ أو ذاك، بالنظر لما يتمتع به من تراكم خبرة، وسمعة حسنة في السوق، ولأن خمسة من الشيوخ في مهن مختلفة شهدوا به على نحو إيجابي قبل أن يحوز على لقب شيخ الكار.
حديث التأسيس
يرأس الزيبق اتحاد الجمعيات الحرفية في دمشق، الذي يعد مظلة العمل الحرفي في المدينة، بيد أن مجلس شيوخ الكار تأسس في 2017، كأحد مشاريع حاضنة دمشق الحرفية ومقرها دمر؛ وذلك بهدف الحفاظ على المهن التقليدية والتراثية من الاندثار، وهكذا ازداد عددهم حتى أصبح حوالى 100 شيخ، بواقع واحد على الأقل لكل مهنة، بحيث يغطي المجلس طيفاً حرفياً واسعاً من هذه المهن، والتي من أبرزها: الشرقيات، النحاسيات، الموزاييك، الفسيفساء، الرسم على الزجاج، تطعيم الفضة، السيف الدمشقي، الصاغة، الدباغة والجلديات، الخياطة وتصميم الأزياء، الحلاقة، وغيرها..
استثمار تراثي
يدعو الحرفي لؤي شكو، الذي قدم بحثاً علمياً موسعاً حول التراث السوري، ومن نتائجه تأسيس الحاضنة والمجلس، والتعاطي مع الاستثمار في التراث من منظور وطني جديد، بوصفه يأخذ أشكالاً كثيرة، منها: المنشآت الحرفية، السياحية، دور التراث، المتاحف الخاصة، دور المزادات.. ويصف هذا الاستثمار بالجاذب؛ لأنه ذو عوائد، وموجه للتصدير، ويعتمد على الإبداع والقدرات الشخصية أكثر من اعتماده على الآلات والمكننة، والأهم هو غنى سورية بالتراث، الذي يمثل الحضارات المتعاقبة التي مرت على البلاد، وهي كثيرة وعظيمة جداً..
ولكن هل من جدوى؟!
يجزم شكو بجدوى كبيرة لهذا النوع من الاستثمار، والذي يستفيد كثيراً من تذبذبات أسعار الصرف، لأن المنتجات التراثية تستهدف بالدرجة الأولى السياح، ومع فارق هذه الأسعار، فإن باعة المنتجات الحرفية يمكن أن يحققوا عوائد مجزية، وهو ما حدث في مصر، التي تتشابه طبيعة الصناعات التراثية لديها مع نظيرتها السورية، فقد صدرت من هذه المنتجات لعام 2013 بنحو 884 مليون جنيه، ثم ارتفعت هذه الصادرات خلال الخمسة أشهر الأولى من 2014 إلى نحو 965 مليوناً، حيث سجلت هذه الزيادة نتيجة تراجع سعر الجنيه أمام الدول بشكل طفيف، فلماذا لا يُستفاد من تراجع سعر صرف الليرة لدينا إلى حوالي 12 ضعفاً لتحقيق مكاسب وعوائد للصناعات التراثية السورية المطلوبة خارجياً!
نقاط القوة والضعف
ثمة نقاط قوة تسهم، وفقاً لشكو، في تعزيز الاستثمار التراثي، وفي مقدمتها.. رغبة الدولة في حماية المهن التراثية من الاندثار، ومساهمة صادرات هذه المهن في رفد اقتصاد البلاد، في موازاة الحد من الاستيراد، وتشجيع منظمة التراث العالمي على حماية تراث الدول المادي والمعنوي عبر دعم الأبحاث والأنشطة ذات الصلة بذلك.
فيما تحد من انطلاقة هذا القطاع نقاط ضعف تتمثل بازدواجية قرارات وتوجهات الجهات المعنية بحماية هذا التراث، وكثرة إغلاق ورش الحرف اليدوية، ولاسيما في دمشق وحلب وريفيهما، وهجرة الكوادر المبدعة في الصناعات التراثية، وعدم تأمين متطلبات الحرفيين والمواد الأولية لزوم الإنتاج بسعر معقول، وضعف تأهيل وتدريب الحرفيين، عبر إكسابهم مهارات وخبرات تتناسب والتطورات التقنية، وتبقى المعضلة الأهم هي نقص الإمكانات التسويقية، وصعوبة النفاذ إلى الأسواق الخارجية.
نتائج..
بالرغم من ضعف الإمكانات والدعم، إلا أن الحرفيين مستمرون في مواصلة اشتراكهم في الفعاليات الداخلية والخارجية، وسبق أن حققوا نتائج مهمة، وفقاً للزيبق، الذي قال: إن الحرفيين السوريين حازوا، خلال العام الفائت، على المراتب الثلاث الأولى ضمن مسابقة جرت في الهند، شارك فيها 1800 عارض من 50 دولة، إلى جانب مشاركات بالمطرزات والنحاسيات والجلديات في العراق ولبنان والجزائر وروسيا والأردن وليبيا وروسيا وأبخازيا وفي بعض الدول الأوروبية.
تراكم خبرة.. وإبداع
في أحيان كثيرة لا يكتفي شيخ الكار بتعليم وتأهيل الحرفيين الجدد والممارسين، بل يجد حلولاً إبداعية لمشكلات قد تعترض عمله، في ظل عدم وجود بديل أو قطع غيار، وهو ما قام به الحرفي بدر الدين قشاش، الذي حصل لتوه على شهادة شيخ كار، حيث أجرى تعديلات فنية على جنوط الكروم لعديد السيارات، إذ عدل مقاسات وأقطار وسماكات بعض هذه الجنوط، سواء لسد نقص حاصل في السوق، أم لإيجاد بدائل أقل تكلفة، أم لأسباب فنية، حيث يفضل بعض أصحاب السيارات، ولاسيما من فئة الشباب، الجنوط الكروم المزخرفة على تلك العادية.
يبقى أن..
العمل سبق التنظير، والخبرة العملية سبقت إحداث الجامعات؛ لذا استفاد الأكاديميون ومنظرو العلوم والمعارف والفنون من أولئك، الذين مارسوا أعمالهم ذات يوم على نحو بدائي، وربما بطريقة الصدفة، ثم أتى من استفاد منها تنظيماً وتأطيراً، وأخذ يقعّد (من قاعدة) هذا العلم أو ذاك، لتظهر فيما بعد كليات وجامعات تحمل اسم ذاك العلم نفسه، فالعلاجات الشعبية والبدائية انتهت بكلية حملت اسم (كلية الطب)، وأعمال الحديد والتعدين أصبحت (كلية الهندسة الميكانيكية)، والأنشطة الزراعية (كلية الزراعة)، وهكذا دواليك..
ما يعنينا من هذا الطرح هو كيف يبدأ كل قطاع أو مهنة بممارسة بسيطة بدائية، ثم ما تلبث أن تقنن، بحيث تصبح لها قواعد عمل وإنتاج، وبمرور الوقت تعقلن هذه القواعد، حيث يضيف كل جيل وكل ممارس عبر التاريخ جديداً إليها، ثم يتميز أولئك الذين يسهمون بإضافات مهمة وملحوظة، فيشار إليهم بأرباب هذه المهنة أو تلك، حتى يتولوا بنظر الآخرين مهام الاستشارات وتقديم خبرات التحكيم وغيرها..
أحمد العمار