العقوبات الأمريكية.. انتهاك لسيادة الدول
د. يوسف جاد الحق
من المتعارف عليه، في القانون الدولي، أن الدول تملك السيادة على أراضيها، ضمن حدودها الجغرافية، وأن التدخل في شؤونها الداخلية من قبل دولة أو دول أخرى، لعدم رضا تلك الدولة أو الدول عن سياسة أو تصرّف معين من وجهة نظرها يعتبر عدواناً عليها وانتهاكاً لسيادتها. ومن المعروف، وفق هذا المفهوم أن برلمانات الدول تملك صلاحيات التشريع ضمن حدود دولها فحسب، ولا تملك أي صلاحية تخوّلها حق إلزام دولة أخرى بقوانين تصدر عنها وفق رؤيتها، حيث يعتبر ذلك – في العرف الدولي، كما أسلفنا، تدخلاً غير مقبول في شؤون تلك الدولة المعنية، ويؤخذ من ثم على أنه اعتداء على سيادتها.
من هنا يمكن القول: إن ما تمارسه أمريكا تجاه الدول الأخرى، من عقوبات تفرضها عليها، تصدر بناء على تشريعات “الكونغرس الأمريكي”، غير المخول بهذا الحق أصلاً، ومما هو جدير بالذكر أنه ما من دولة في العالم تعمد إدارتها السياسية، وفق توصية لبرلمانها إلى فرض عقوبات على أمريكا، مثلاً، أو على غيرها من الدول، فلماذا إذاً تنفرد أمريكا بإعطاء نفسها هذا الحق، وكأنها الحاكم بأمره على المجتمع الدولي؟!، وأين هو هذا المجتمع الدولي من هذا الذي يجري من دون أن يحرّك ساكناً، أو أن يسمع له صوت يعارضه؟!.
لقد سارت أمريكا على هذا النهج طويلاً دون أن تواجه معارضة دولية، تقول لها إن ممارساتها هذه خارجة على القانون الدولي، ولاسيما أنها تفضي في كثير من الأحيان إلى التسبب في موت الأبرياء قتلاً أو مرضاً أو جوعاً، إذ تفرض عقوباتها أحياناً عبر الحصار الذي يحول دون وصول الغذاء والدواء والطاقة إلى الدولة الخارجة على الإرادة الأمريكية. حدث هذا في العراق وسورية، بل وصل بها الأمر حدّ ممارسة هذه السياسة العشوائية التسلطية على دول تساويها أو تفوقها حجماً في المعايير الدولية، كروسيا والصين، أو دونها حجماً في حالات أخرى مثل كوريا الديمقراطية وتركيا والبرازيل والمكسيك وفنزويلا وغيرها.
وها نحن نشهد، في أيامنا هذه، العقوبات الأمريكية تتخذ أبعاداً تسلطية، هي غاية في الخطورة والانتهاك للسيادة، إذ يعمد دونالد ترامب إلى تهديد الدول، أياً كانت، التي لا تسهم معه في تنفيذ قراره بمعاقبة إيران، على سبيل المثال، بالامتناع عن شراء نفطها، وتجميد أموالها لديها، ومنع بنوكها من التعامل معها.
أغرب ما في الأمر هنا أن ترامب يعود اليوم إلى فرض العقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا لشيء سوى إصرارها على الالتزام والتقيد باحترام “الاتفاق النووي”، الذي وقّع عليه سلفه باراك أوباما، بل إنه، ترامب، من عمد إلى نقض الاتفاق أحادياً ومزاجياً، وليست إيران من فعل ذلك، بشهادة حلفائها من الدول الأوروبية نفسها “بريطانيا وفرنسا وألمانيا”، التي لم تسايره فيما ذهب إليه، فتعلن التزامها ببنود تلك الاتفاقية.
حقيقة الأمر هي أن موقف أمريكا المعادي، لإيران على هذا النحو غير المبرر، إن هو إلا استجابة لرغبات رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو الذي رأيناه لا يتورع عن تهنئة ترامب على “شجاعته” في اتخاذ قراره “التاريخي” بفرض عقوباته على إيران.
و”السيد ترامب” من ناحيته، والذي لم يكن مجيئه إلى موقعه هذا، الذي لم يكن لمثله أن يصل إليه لولا تعهده لـ “الإيباك” والصهيونية العالمية بتنفيذ كل ما يطمحون إليه، وفي مقدّمة ذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها “العاصمة الأبدية” لعصابة “بني إسرائيل”، وإقراره بأن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم غير واردة.. وغير ذلك كثير، ليس أقله تلك الحكاية المسماة “صفقة القرن” الغامضة المشبوهة، المتفق عليها تآمراً بين الجهات المعادية والمتواطئة والخانعة، فهؤلاء جميعاً شركاء في الجريمة الكبرى المنوي الإقدام عليها.
إن العقوبات الأمريكية ليست سوى سلاح الامبريالية الجديد الهادف إلى التسلّط على مقدرات الدول والشعوب، غير أن شعوب العالم قاطبة ترفضه وتدينه، ولن يكون مصيره غير الفشل الذريع في النهاية. فهنالك أقطاب دولية تتكوّن راهناً مما سوف يسفر عن تراجع الولايات المتحدة إلى دولة ثانية أو ثالثة في موازين الدول ولدى المجتمع الدولي المتغيّر بتسارع مشهود.