إحراق الأقصى .. جريمة ممنهجة للاعتداء على الأماكن المقدسة
د. معن منيف سليمان
تعد جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك حلقة في سياق الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة على الأماكن المقدسة في القدس. فقد دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بشكل مستمر للتعرّض لحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية والاعتداء المتكرر عليها بهدف تنفيذ مخططاتها الرامية إلى تغيير طابع القدس وطمس معالمها العربية والإسلامية.
ففي 21 تموز عام 1969م، أقدم الإرهابي الإسرائيلي من أصل أسترالي “دينيس مايكل روهان” وبدعم من العصابات الإسرائيلية المغتصبة للقدس على إحراق المسجد الأقصى المبارك، وذلك بعد عامين من الاحتلال الصهيوني للقدس .. في جريمة تعدّ من أكثر الجرائم إيلاماً بحق الأمة وبحق مقدساتها، وهي وصمة عار لا تمحوها سوى سواعد المقاومين الذين يعدون عدتهم بانتظار تحرير القدس من رجس الصهاينة.
أتت النيران على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر صلاح الدين الأيوبي.. ذلك المنبر التاريخي الذي أعده القائد صلاح الدين لإلقاء خطبة من فوقه لدى انتصاره وتحريره لبيت المقدس، كما أتت النيران الملتهبة في ذلك الوقت على مسجد عمر بن الخطاب ومحراب زكريا ومقام الأربعين وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالاً داخل المسجد الأقصى.
بلغت المساحة المحترقة من المسجد الأقصى أكثر من ثلث مساحته الإجمالية، حيث احترق ما يزيد عن 1500م2 من المساحة الأصلية البالغة 4400م2، وأحدثت النيران ضرراً كبيراً في بناء المسجد الأقصى المبارك وأعمدته وأقواسه وزخرفته القديمة، وسقط سقف المسجد على الأرض نتيجة الاحتراق، وسقط عمودان رئيسان مع القوس الحامل للقبة، كما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية، وتحطم 48 شباكاً من شبابيك المسجد المصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترق السجاد والكثير من الزخارف والآيات القرآنية.
وكانت الكارثة الحقيقية والصدمة التي أعقبت هذا الاعتداء الآثم أن قامت محاكم الكيان الصهيوني بتبرئة ساحة المجرم الاسترالي بحجة أنه «مجنون» !! ثم أطلقت سراحه دون أن ينال أية عقوبة أو حتى إدانة!!
وصرح المجرم «دينيس مايكل» لدى اعتقاله أن ما قام به كان بموجب نبوءة في سفر زكريا، مؤكداً أن ما فعله هو واجب ديني كان ينبغي عليه فعله، وأعلن أنه قد نفذ ما فعله كمبعوث من الله!! إذ يعتقد اليهود أن القائد الروماني “تيطس” قد دمّر الهيكل الثاني الذي يزعمون أنه كان مقاماً مكان المسجد الأقصى في 21/8/70م، وهو اليوم نفسه الذي يحتفل اليهود بذكرى تحطيم هيكلهم والذي يصادف يوم إحراق المسجد الأقصى، ولذلك فإن لديهم الدافع لارتكاب اعتداءات ضد المسلمين وضد المسجد الأقصى للإسراع في بناء الهيكل الثالث المزعوم، وعلى الرغم من أن الدلائل وآثار الحريق كانت تشير إلى تورط مجموعة كاملة في الجريمة وأن هناك شركاء آخرين مع اليهودي المذكور إلا أن قوات الأمن الصهيونية لم تجر تحقيقاً في الحادث ولم تحمّل أحداً مسؤولية ما حدث وأغلقت ملف القضية بعد أن اكتفت باعتبار الفاعل مجنونا!!
وإذا ما تقصينا ملابسات كل جريمة اعتداء على حدة، لوجدنا تشابهاً في الأهداف وسلوك القيادة الإسرائيلية التي تسارع للتأسف بعد كل حادث، ثم تبادر إلى تشكيل لجنة أو عقد محكمة كوسيلة لامتصاص غضب الرأي العام العالمي والمحلي، ثم تدفن الجريمة في غياهب التاريخ، ولهذا فإن تكرار الاعتداءات وأسلوب تعامل القيادة الإسرائيلية معها يثبتان وجود نهج نابع من التوجه العام للحركة الصهيونية تجاه الأماكن المقدسة، والهدف المشترك لكل الاعتداءات كان ومازال فرض الطابع الذي يسمى “يهودياً” على المدن والأماكن العربية المقدسة فيما يعرف بــ”التهويد” بهدف طمس معالمها الإسلامية والمسيحية ثم ضمها إلى قائمة ما يسمى ” المواقع التراثية اليهودية”. فالنهج الإسرائيلي يحفز على الاعتداء على الأماكن المقدسة إلى أقصى حدٍّ، تلك الاعتداءات التي توصف فيما بعد بالخطأ أو سهو وقع على مستوى وحدات قتالية دنيا أو أفراد يمكن وصفهم فيما بعد تنفيذ الجريمة بالمجانين.
إذن لم تكن جريمة الإحراق حدثاً عابراً، بل كانت خطوة على طريق طويلة سار فيها الصهاينة منذ قيام كيانهم الغاصب عام 1948م، تهدف إلى إعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم مكان المسجد الأقصى بعد إزالته رغم كل المواثيق الدولية التي تمنع المساس بالمقدسات والآثار.
ففي تموز عام 1948م، أغار الصهاينة على المسجد الأقصى حيث وجهت المدفعية قذائفها صوب المسجد الأقصى المبارك، فأصابت إحدى هذه القذائف مسجد الصخرة وقُتل بعض المصلين، كما نتج عن تتابع القصف حدوث خرق كبير في سقف الرواق الأوسط لقبة الصخرة، وتحطم شباك القبة المصنوع من الفسيفساء والزجاج المذهب الذي كان من التحف النادرة.
وفي حرب حزيران عام 1967م، اعتدى الصهاينة على المسجد الأقصى، حيث استباحوا قدسيته وقتلوا العديد من الأبرياء، وأقاموا صلواتهم داخل الحرم، ثم تتابعت اعتداءاتهم بحجة الكشف عن التاريخ اليهودي وهيكل سليمان. فأخذت السلطات الإسرائيلية تقوم بالحفر في أماكن متعددة في الأحياء العربية المصادرة داخل السور والمناطق الملاصقة للحائطين الجنوبي والغربي للحرم الشريف. وتغلغلت إلى مسافة 230م أسفل الحرم وعقارات الوقف الإسلامي التابعة له وبعمق عشرة أمتار وعرض 6 أمتار. وترتب على هذه الحفريات تصدع الزاوية الغربية الفخرية (مقر مفتي الشافعية)، فضلاً عن تهديد سور الحرم. وأمام الاحتجاجات المتتالية للمسلمين عيّنت اليونسكو قيّما على هذه الآثار.
كما تسعى “إسرائيل” لوضع يدها على مقبرتي باب الرحمة واليوسفية الملاصقتين للحرم الشريف من الجهة الشرقية وضمهما إلى متنزَّه ما يسمى “إسرائيل الوطني”.
أضاف اليهود جريمة جديدة حين واصلوا حفرياتهم، وأعلنوا عام 1981م، أنهم توصلوا إلى نفق يمتد تحت المسجد الأقصى، يصل ما بين أسفل حائط المبكى وقبة الصخرة المشرفة، وزعم بعض الحاخامات أن هذا النفق هو أقدس الأماكن اليهودية، وأنه أهم من حائط المبكى، إذ هو – على حد زعمهم- بوابة كيفونوس الواردة في كتاب التلمود، وهي أهم مكان للصلاة.
ولابد في معرض الحديث عن الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى من إيراد بعض الاعتداءات الصهيونية تجاه المقدسات المسيحية بغية تدنيسها أو تخريبها، سواء كانت هذه المحاولات حكومية أو فردية، والتي يمكن أن يذكر منها، خلال حقبة السبعينات: الاعتداء على كنيسة القيامة، حيث قام يهودي أمريكي، في شباط عام 1971م، بعد أن دخل كنيسة القيامة، متظاهراً بالزيارة، بتحطيم قناديل الزيت والشموع المقامة على القبر المقدس. اغتصاب أملاك بطركية الروم الأرثوذكس بالقدس، حيث صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، في آذار عام 1971م، قطعة أرض كبيرة تابعة للبطركية تقع بين فندق الملك داوود ومحطة سكة الحديد. الاعتداء على أملاك بطركية الأرمن الأرثوذكس بالقدس، حيث صادرت سلطات الاحتلال عمارة (فندق فاست) التابعة لبطركية الأرمن الأرثوذكس، ثم هدمتها وباعت أرضها لشركة إسرائيلية. بيع عمارة النوتردام (الدير الفرنسي) بالقدس، للجامعة العبرية وهي عملية احتيالية قامت في نيويورك عام 1970م، وأفضت إلى بيع هذا الدير للجامعة العبرية. استملاك مدرسة شنلر الألمانية، حيث استملكت سلطات الاحتلال جميع أبنية مدرسة شنلر الألمانية، بالقدس، والتي كانت تضم أكبر مدرسة لوثرية مهنية داخلية لأيتام العرب، مع كنيسة وأبنية سكن. وضع اليد على أملاك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بالقدس.
إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي مسؤولة بشكل كامل بصفتها قوة قائمة بالاحتلال في القدس بمنع مثل هذه الاعتداءات الممنهجة على الأماكن المقدسة، وضرورة الوقف الفوري لدخول المتطرفين اليهود إلى باحات الحرم القدسي الشريف لأن هذا الأمر يعد خرقاً للقرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة، ويهدف إلى تقويض الجهود المبذولة لتحقيق السلام، وانتهاكاً صارخا لمشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين.
وإن الحكومات العربية والإسلامية كافة تتحمل مسؤولياتها الكاملة في الدفاع عن القدس الشريف وصون مقدساتها في مواجهة ما تتعرض له باستمرار من عدوان إسرائيلي غاشم يستهدف النيل من وجودها تحقيقا للأطماع المعروفة وممارسة للأحقاد الإسرائيلية ضد الوجود العربي والإسلامي في فلسطين والقدس بشكل خاص.
ويجب على هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ذات العلاقة المبادرة والكشف عن المخططات العدوانية الإسرائيلية بحق المسجد الأقصى المبارك والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين ووضع حدِّ فاصل لها وإلزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعدم التعرض لها بأي شكل من الأشكال.
وعلى دول العالم وهيئاته الرسمية والشعبية على حدٍّ سواء للمبادرة الفورية إلى إعلان رفضها القاطع وإدانتها الشديدة لهذه المحاولات البائسة وتأكيد حتمية احترام حرمة الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس وسائر أنحاء فلسطين والكف عن أية مخططات لهدم طريق باب المغاربة والبناء الملاصق للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك.
ولاشك أن الصمت الحكومي عند الدول العربية والإسلامية تجاه ما يجري على أرض فلسطين، وضعف الإمكانيات عند مقاومي فلسطين، والتواطؤ العالمي، فضلاً عن الدعم الأمريكي والأوروبي للكيان الإرهابي في فلسطين شجع الإسرائيليين على الاستمرار في الاعتداء على الأماكن المقدسة حتى اليوم.