تحوّل استراتيجي مدهش..
د. مهدي دخل الله
إذا صدقت الأنباء التي أفادت بأن سلاح الجو التابع للجيش العربي السوري قصف الرتل العسكري التركي وأوقفه بعيداً عن خان شيخون، تكون الحرب والسياسة وصلتا إلى تحوّل استراتيجي يكاد لا يصدّق..
سأفترض أنها أنباء صادقة، وهي صادقة على ما يبدو، وسأفترض أيضاً أن الضربة الجوية السورية هدفها التحذير فقط، وقد أتت أكلها، وحققت هدفها. هذا يعني أن الأمر لا يقتصر على إجراء تكتيكي تتطلبه الضرورة في مسار حرب من أشد الحروب وأكثرها وحشية وتدميراً، وإنما هو، مرة أخرى، نقطة انعطاف استراتيجي له منعكساته على السياسة الدولية برمتها..
لنقرأ معاً بعجالة مضامين هذا التحوّل:
إنه ضربة سورية مباشرة، مهما كان حجمها، لأن المهم هنا النوع، وليس الحجم لحلف الناتو، لأن لتركيا أهمية جيواستراتيجية وجيوسياسية في الحلف، وجيشها الجيش الثاني في هذا الحلف سيىء الصيت..
لا يتعلق الأمر بأن تضرب سورية «الناتو» مباشرة عبر تركيا، وإنما هناك مضامين أكثر أهمية. فالشجاعة السورية على ضرب الناتو قديمة.
لنتذكر أن جيشنا تجرّأ على ضرب القوات الأمريكية مباشرة في لبنان عام 1983، واليوم يمكن لزائر المتحف الحربي الأمريكي أن يرى بقايا البارجة الحربية «نيوجرسي» التي ضربت القوى الوطنية في لبنان آنذاك، فكان مصيرها التدمير، ولنتذكر أيضاً أن جيشنا أسقط في الرابع من كانون الأول 1983 الطائرة الحربية الأمريكية (إي انترودر)، وأسر طيارها أسمر اللون الملازم روبرت جودمان. هل تتذكرون الصورة الشهيرة للطيار الأسير في الشاحنة السورية التي أقلته إلى دمشق، وقد وضع رأسه متعباً على كتف الجندي السوري في الشاحنة، وكيف وضع هذا الجندي البطل ذراعه على كتف الأسير مواسياً له؟؟.. إنها إنسانية السوريين وشجاعتهم…
لكن هذه الإنسانية والشجاعة ظهرت في أفضل صورها عندما أتى القس الأسمر جيسي جاكسون مبعوثاً من الرئيس رونالد ريغان، ورجا السيد الرئيس حافظ الأسد آنذاك ليفرج عن الأسير، فأفرج عنه، لكنه سأله: لو أن طياراً سورياً ضرب بلدكم وأسرتموه، فهل تعيدوه لنا؟… أجاب الأمريكي : طبعاً لا، قال الرئيس عندها: هذا هو الفرق بيننا وبينكم..
عام 2003 أي بعد ثلاثين عاماً على الحادثة روى جودمان تجربته في سورية، وكيف عامله السوريون، فقال حرفياً: «لم يكونوا عدوانيين ولم يهددوني، كانوا صبورين جداً معي»!…
إذاً ليست المسألة في أن سورية تتجرّأ على ضرب الناتو، خاصة أن الولايات المتحدة أهم من تركيا، وإنما المسألة في الأوضاع التي جاءت فيها الضربة الحالية. لقد ظن قادة دول كثيرة ورأي عام واسع في العالم أن سورية ستخرج من الحرب بانتصار مؤلم وبدولة متعبة، وستحاول جمع ما تبقّى لديها من طاقة لترتيب البيت الداخلي اقتصادياً واجتماعياً ولملمة آثار الجراح الصعبة.
ضربة الرتل التركي أصابت من هذا الرأي مقتلاً، فهذه الضربة مؤشر أن سورية انتقلت إلى مرحلة جديدة، ووقفت على قدميها، وأنها ستجعل من انتصاراتها المتوالية منطلقاً لدور أكبر على الساحة الإقليمية، وما هو أوسع من الإقليمية، وأنها تقول للعالم: إن جرأتها اليوم على ضرب الناتو مباشرة في تصاعد مستمر، وإن سورية «الجديدة» ستلعب دوراً أكثر تأثيراً في إقليمها وفي العلاقات الدولية عموماً..
mahdidakhlala@gmail.com