الحسود يسود!؟
د. نهلة عيسى
أمامكم وبصدق شديد أعترف: أنني أحسد الناس (وما أكثرهم في بلادنا الحزينة) الذين يتحدثون عما يعرفون و”غالباً” ما لا يعرفون, بثقة كبيرة تصل حد اليقين الذي لا تزاحمه ذرة شك, أو لفظة “ربما”, لدرجة أنك تشعر أنهم يقفون باسترخاء العارف المطمئن على قمة جبل الكون, مخاطبين الكرة الأرضية بقضها وقضيضها: انتظرينا, نحن قادمون لتغييرك!؟
وبجد أيضاً, أحسد أولئك الذين يظنون (وهم أيضاً كالطحالب كثر) أنهم مهمون, محبوبون, مرغوبون, مدهشون, وأن جلساتهم لا تفوت, وحضورهم لا يعوض, وأن دمهم خفيف, يلقون بكلماتهم ونكاتهم السمجة ذات الشمال وذات اليمين, وهم أول وآخر وكل الضاحكين, ولا يرون, بل لا تعنيهم أبخرة الضجر تتصاعد من وجوه السامعين, ولا ظلال السأم تتسول صمتهم, وتتوسل رحيلهم, وتلعن ساعة لقياهم!!
وبجد الجد, الحسد يتأكل قلبي أمام من لا يسمعون سوى أصواتهم, ولا يؤمنون إلا بأنفسهم, ويقدمون أمام القاصي والداني استعراضاً لعضلاتهم الفكرية, ووصلة “ستربتيز” عن منجزاتهم العظيمة, وضرورتهم لتاريخ البشرية, وحتمية سقوط الكرة الأرضية في العدم إذا رفعوا يدهم عنها, تاركين العالم غارقاً في أكفانه, حتى ينتهوا من رواية مذكرتهم عن كيف أنهم أنقذوا العالم!؟ ولا يهمهم أنهم يتلون عظاتهم على أسماع هياكل عظمية, وفوق جدران التوابيت! المهم أنهم يتلون, وأنهم “وفق ظنهم” وحدهم من يملكون “روشتة” الحياة المثالية, والوطن السعيد, وكيف تتعلم الوطنية في خمسة أيام!؟
بصدق أحسد كل هؤلاء, وأتمنى لو كنت أملك يقينهم, سماجتهم, معصوميتهم, وقدراتهم المتوهمة على إحياء الموتى قبل حتى أن يغادر المشيعون, ذلك لأنني رغم كل العلم والعمر والتجارب والخيبات والضحكات, ما زلت أنتمي إلى كل الأسئلة العتيقة المنحوتة على جدران الكهوف منذ ملايين السنين, في درب البحث عن جواب: من أنا؟ وماذا أفعل, وكيف؟ وإلى أين ومتى؟ وهل حقاً؟ ولماذا؟
وما زلت رغم أن مهنتي الكلام, أعتقد أن الاستماع هو قمة التعقل, وأن الكلام مهما أصاب, هو قمة السفه, وأن النظر من الشرفات يوهم بالرؤية, ولكنه ليس رؤية, بل مجرد تشاوف, وفي أحسن الأحوال مد نظر, ولهذا لا شيء في ظني قد خرب هذا البلد الجميل غير أوهامنا بأننا “سوبر بشر”, وأننا الأولون, وأننا المرجل, وأننا المعول, وأننا الأصل والفصل, وأن الفرح ولد لينام في أسرتنا, ولذلك عندما تداعت بنا الأسرة, كان الفرح أول من هرب!!
وما زلت أعتقد, رغم أنني أكره الاعتقاد, أن الادعاء والافتعال ومحاولات الإطراب تزاحمنا جلودنا وذواتنا, وأن الوطن الذي لبث كرجل الثلج صابراً, صامتاً على مدار سنين الخراب, يراقبنا نتطاول, ونتدافع, ونتزاحم, ونتبارز “مع الرصاص”, بالألسن, والأصوات النشاز, ليؤكد كل واحد منا “الإرهابي, والفاسد, والخائن, والبائع, والداعر, والسارق, والصادق, والكاذب, والكبير والصغير, الحاضر والغائب, والمؤيد والمعارض”, أنه وحده من يحق له التحدث باسمه, ووحده من يعرف ما في سريرة الوطن, ووحده من يملك الحديث الصواب, قد وصل بعد ثمان ونيف من الجليد, مرحلة الغليان, من مهزلة التذكارات “سيلفي والوطن خلفي”, ومهرجانات التفاخر الأجوف والرعونة والشتيمة والسباب, مدعية حب الوطن, ومدعيةً الدفاع عنه, والوطن بريء من الجميع, لأنه بعد كل هذه السنين, لم يعد أحد منا بريئاً!
ولأن لا أحد منا بات بريئاً, لكثرة ما ادعينا, أننا الصدفة الناطقة باسم البحر, رغم أننا ملفوظون من البحر, أفكر أحياناً أنه آن الأوان لفرار من هذه الزحمة, من الخدمة القسرية في مقبرة الميكرفونات, التي لا تحتفي سوى بالموت, ولا تصلح سوى للتأبين, وتطويب القاتلين, والسارقين, والفاسدين, وإكراه من لا حول لهم ولا قوة على تمجيد القبح, وادعاء تصديق الأكاذيب, وتعويد القلوب على انتظار عفو الجلادين, ثم أعود عن تفكيري بالفرار إلى خبرة العيش وسط الجنود, فأعود لإيماني بأن الشمس ستشرق يوماً ما عبر شواهد قبور الشهداء, ومن بين أجنحة العصافير, وأن وجه الوطن مهما تدمى, سيبقى الأطفال له يبتسمون, وتباً للكبار.